مقالات: ليلة النصف من شعبان
الاحتفال بليلة النصف من شعبان، والتجمع لها، وترديد أدعية مخصوصة وماشابه ذلك كان من الأمور الشائعة في أرتريا، وفي كثير من بلدان العالم الإسلامي. وقد كتب سماحته هذا المقال لبيان الأمور المشروعة في هذه الليلة، والآثار التي وردت في ذلك، والتحذير من الزيادات التي لا أصل لها.
جريدة الوحدة
الجمعة 14 شعبان 1384هجرية الموافق 18 ديسمبر 1946م
أخرج الطبراني وابن حبان في صحيحه عن معاذ ابن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يطلع الله إلى جميع خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن”.
الكتب المؤلفة في فضائل نصف شعبان
إن الله سبحانه وتعالى، جلت قدرته، قد فاوت بين مخلوقاته بالفوائد والمزايا، وجعل لبعض الأزمنة فضلا تتفاوت به على غيرها من أمثالها، ومن ذلك ليلة النصف من شعبان التي يتجلى الله فيها برحمته وفضله، وقد اشتهر فضل هذه الليلة بين المسلمين من قديم الزمان فكانوا يحيونها بالعبادة، والذكر، والدعاء. ولذلك إهتم جماعة من العلماء بها فأفردوها بالتأليف، ومن هذه المؤلفات مايلي:
– ما جاء في شهر شعبان، للعلامة الحافظ أبو الخطاب ابن دحية الأندلسي
– الإيضاح والبيان لما جاء في ليلة النصف في شعبان، لابن حجر الهيتمي
– ليلة النصف من شعبان، للعلامة الأجهوري المالكي
– بهجة الإخوان في فضل ليلة النصف من شعبان، لمحمد عبدالرحمن عيد المحلى
– هدية الإخوان في فضل ليلة النصف من شعبان، لإبراهيم الإمام
– البيان في آراء علماء الشريعة في دعاء ليلة النصف من شعبان، لحسن الهادي حسين، الى غير ذلك من الرسائل.
بدء الاحتفال بها
والظاهر أن الإحتفال بها قد بدئ في القرن الأول من الهجرة، وكان جماعة من التابعين من علماء الشام يحيون ليلتها كخالد ابن معدان الكلابي الحمصي، وأبو عامر لقمان ابن عامر الوصابي، ومفتي الشام وعالمها أبو عبدالله مكحول الشامي وغيرهم، حيث كانوا يلبسون فيها أحسن ثيابهم، ويتطيبون، ويقومون ليلتها في مسجد. وقد صرح الفقهاء في كتبهم بندب إحياء ليلتها بكل عبادة تعم الليل أو أكثره، بدون تخصيص بنوع من العبادة على الدوام.
قيام ليلة النصف من شعبان وصيام نهاره
وقد وردت في فضلها، وقيامها، واستجابة الدعاء فيها عدة أحاديث لا تخلو عن مقال فيها، ومن ذلك ما أخرجه ابن ماجة في سننه عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها فإن الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى السماء الدنيا فيقول ألا من مستغفر فاغفر له، ألا من مسترزق فأرزقه، ألا من مبتلى فأعافيه، ألا كذا كذا حتى يطلع الفجر”. وهذا الحديث وإن كان ضعيفا فله طرق آخرى تؤيده، وقد صرح علماء الأثر بأن الحديث الضعيف يجوز العمل به في فضائل الأعمال بشروط:
أولها : عدم شدة ضعفه بحيث لا يخلو طريق من طرقه عن كذاب أو متهم بالكذب.
ثانيها : أن يدخل تحت أصل عام.
ثالثها : ألا يعتقد سنية ما ثبت بذلك الحديث، بل يعتقد الاحتياط.
دعاء ليلة النصف من شعبان
ومن الأدعية المأثورة في تلك الليلة ما أخرجه الحافظ ابن عساكر عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو وهو ساجد في ليلة النصف من شعبان قائلا: “أعوذ بعفوك من عقابك، وأعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بك منك جل وجهك”، وقال أمرني جبريل أن أرددهن في سجودي، فتعلمتهن وعلمتهن.
وغير ما تقدم لم يثبت شئ يعتمد عليه من الطرق المعتبرة فيما يعمل في هذه الليلة على الخصوص، من دعوات، وصلوات، بل الأمر مفوض إلى المسلم العامل يصلي، ويدعوا، ويذكر، ويتلوا، ويتصدق فيها كيف يشاء على حسب استطاعته واختياره.
دعاء يا ذا المن لا أصل له
وأما قراءة دعاء “يا ذا المن ولا يمن عليه ..” إلى أخرها المتعارف قراءتها بعد صلاة المغرب في ليلة النصف من شعبان، فهى لا أصل لها بخصوص هذه الليلة، فينبغي تركها بتاتا لشدة تمسك العامة بها، وخصوصا في المساجد محافظة على إعتقاد الناس، لأنهم يعتقدون أن قراءتها بين المغرب والعشاء يطول العمر، ويوسع الرزق، ويدفع البلاء، وأن ما كتب في أم الكتاب يمحى، … وهذا مخالف لظواهر الأدلة الشرعية، وقد أخرج الحاكم النيسابوري في مستدركه عن عبدالله ابن مسعود، والنويري في نهايته عن عمر بن الخطاب قالا: “الإقتصاد في السنة خير من التوسع في البدعة”. فالدعاء المذكور لو كان خاليا عن إعتقادات العامة فيه، ما كان به بأس كسائر الدعوات، ولكن التمسك الشديد من العامة يجعلها مما يجب إبطالها من أصلها محافظة على إعتقادها، فإنك ترى أن من لم يعرف المسجد طول العام يحضر مهرولا في تلك الليلة إلى المساجد ليشترك في ترديد الدعاء المتقدم ذكره. والدعاء إلى الله تعالى مطلوب وجائز بكل لفظ خال عن التعدي في كل زمان ومكان، فيدعوا المرء بحاجته، ويناجي ربه بمطلوبه، حاضر القلب مع مولاه، لا مقلدا، ولا حاكيا لدعاء غيره، فإن ذلك يذهب برقة الفؤاد، ومحال أن يستجيب الرب لمن يدعوه وقلبه لاه وغافل.
الاحتجاج بسكوت العلماء
ولا يسع أهل العلم السكوت عن مثل هذه الأعمال بعد ظهور تشبث العامة بها حيث أن سكوتهم عليها قد يعد في مستقبل الأزمنة دليلاعلى ثبوتها ومشروعيتها في أيام يقل فيها العلم والعلماء، كما يشير إلى ذلك حديث أبي نعيم في حلية الأولياء عن عمر بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله لاينزع العلم من الناس بعد أن يعطيهم إياه، ولكن يذهب مع العلماء، كلما ذهب عالم ذهب ما معه من العلم حتى يبقى ما لا يعلم، فيتخذ الناس رؤسا جهالا فيستفتوا ويفتوا بغير علم فيضلوا ويضلوا”. ولفظ البخاري “أن الله لا يقبض العلم إنتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلماء حتى إذا لم يبقى عالم إتخذ الناس رؤسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا”.
منع الشرع ما يفسد الإعتقاد
والشرع الإسلامي يمنع كل مايؤدي الى إعتقاد مشروعية ما ليس بمشروع، وقد وردت في ذلك أثار كثيرة ومنها:
– زيارة القبور في بدء الإسلام: منع الرسول صلى الله عليه وسلم زيارة القبور في بدء الإسلام، لكونهم قريبي العهد بالوثنية لئلا يؤثر ذلك في إعتقاداتهم، وبعد ما رسخ الإسلام في قلوبهم أجاز لهم زيارتها، لما أخرجه مسلم في صحيحه عن سليمان أبن بريدة، وابن ماجة في سننه عن عبدالله ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإن زيارتها تذكر بالأخرة”
– الشمس لا تنكسف بموت أحد: وفي السنة العاشرة من الهجرة توفي إبراهيم ابن الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي يوم وفاته صادف كسوف الشمس، فاعتقدت العامة أنها انكسفت حزنا على موته فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب فيهم وقال: “إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان بموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموه فكبروا وادعوا الله وصلوا وتصدقوا” ( رواه مسلم في صحيحه)
– قطع عمر شجرة بيعة الرضوان: وقطع سيدنا عمر ابن الخطاب الشجرة التي حصلت تحتها بيعة الرضوان قبل صلح الحديبية، المشار إليها في قوله تعالى “لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة” لما بلغه تشبث العامة بها، لما اخرجه ابن ابي شيبة عن نافع رضى الله عنه قال بلغ عمر ابن الخطاب أن أناسا يأتون الشجرة التي بويع تحتها فأمر بها فقطعت .
– كلام عمر ابن الخطاب في تقبيل الحجر: وأخرج أصحاب الكتب الستة عن عباس ابن ربيعة وغيره قال: رأيت عمر ابن الخطاب يقبل الحجر ويقول: “إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك”. وإنما قال ذلك لدفع توهم قريب عهد بالإسلام ما كان يعتقد في حجارة أصنام الجاهلية من الضر والنفع، وأشار ذلك في الموسم ليشتهر في البلدان ويحفظه من تأخر في الأقطار.
– هدم عثمان قصر غمدان: وأمر عثمان ابن عفان بهدم قصر غمدان الذي كان قد بناه الضحاك في صنعاء اليمن باسم الزهراء، أحد الكواكب السبعة، وكانت الأمم تحجه وتعظمه.
– ترك الأضحية: وروى أن أبا بكر، وعمر رضى الله عنهما كانا لا يضحيان مخافة أن يعتقد الجاهل فرضيتها، كما ذكر ذلك الإمام البقاعي .. والبيهقي من حديث أبي شريحة الغفاري، كما جاء مثل ذلك عن ابن عباس، وأبي مسعود البدري، كما نقله سعيد ابن منصور في سننه.
– كراهة مالك صيام ستة من شوال: وقد كره الإمام مالك ابن أنس صوم أيام البيض، وصوم ستة أيام من شوال، مع ورود الأحاديث الصحيحة بطلب صيامه، خوفا من اعتقاد العامة بوجوبها وبلحوقها بشهر رمضان بالنسبة للأخير، كما كره أيضا الزيادة على المد في الفطر خوفا من تغيير المقادير الشرعية.
– كراهة الشافعي صيام التطوع: وقد قال الإمام الشافعي في مذهبه القديم أكره أن يتخذ الرجل شهرا يكمله كما يكمل رمضان، وقال إنما كرهته لئلا يأتي رجل جاهل يظن أن ذلك واجب.
– كراهة سجدة الشكر: وقال الحصكفي الحنفي في الدر المختار: “سجدة الشكر مستحبة وبه يفتى لكنها تكره بعد الصلاة لأن من الجهلة من يعتقد أنها سنة أو واجبة وكل مباح يؤدي إليه مكروه”، وما يؤثر في هذا الباب عن علماء الإسلام كثير وما سقنا منه إلا القليل للتذكير .
ما جاء في تقدير الآجال فيها
وقد جاء في تقدير الآجال في ليلة النصف من شعبان ما أخرجه الحافظ ابن شاهين في الترغيب عن عطاء بن يسار قال “إذا كان ليلة النصف من شعبان نسخ الملك من يموت من شعبان إلى شعبان وأن الرجل ليظلم ويتجر وينكح النساء وقد نسخ اسمه من الأحياء إلى الأموات، ما من ليلة بعد ليلة القدر أفضل منها ينزل الله فيها إلى سماء الدنيا فيغفر إلا لمشرك أو مشاحن أو قاطع رحم”.
الخلاف في ليلة التقدير
وفي كون التقديرات في ليلة القدر، أو في نصف من شعبان خلاف بين العلماء منشئه إختلاف التفسير في قوله تعالى (إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين، فيها يفرق كل أمر حكيم) فالبعض فسرها بليلة القدر وهو الأرجح، والبعض فسرها بنصف شعبان، وذكر الكرخي نقلا عن ابن عباس أن الله يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان، وتدفع إلى الملائكة الموكلين في ليلة القدر.
الإسلام دين عمل
وإننا إذ نبتهل إلى الله تعالى في ليلة النصف من شعبان و ندعوه بكل خير وسعة في الرزق، ودعاء العبد إلى خالقه مطلوبة في كل ما يحتاج إليه، لأنه هو المعطي والمانع بدون شريك، وبيده زمام الأمور (وإن من شئ إلا عندنا خزائنه ولكن ننزله بقدر معلوم)، يجب علينا أن نقرن الدعاء بالعمل وسلوك باب الأسباب والوسائل، لأن الدين الإسلامي دين عمل يحارب الكسل، والترهب، والتواكل، وقد قال الله عز وجل “هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه”، وأخرج الطبراني وابن عدي والبيهقي في شعب الإيمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله يحب المؤمن المحترف”.
المواسم ميدان الخيرات
والمواسم ميدان الخيرات، ومظان الحسنات، يحوطها الإجلال، وتتضاعف فيها الأعمال، فيقوم العبد المؤمن بما في طاقته من الأعمال المفيدة من تلاوة، وذكر، وصلاة، وصدقات، وإحسان؛ والصدقات لها خصوصية لأنها أوفى وأكمل في الأجر لكونها عبادة متعدية إلى الغير وكذلك ماكان في سبيل العلم، وما يؤدي إلى إحياء المشاعر الدينية، كل على قدر إستطاعته وفقا للشريعة الغراء، وبذلك تكمل للإنسان سعادة الدنيا والأخرة، وختاما نسأل الله تعالى أن يغرس في قلوبنا حب العمل والإنفاق، ويرفع عنا مصائب التفرق والإنشقاق، إنه مدبر الكون ومسير الأمور .
اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!