مواقف المفتي في الدفاع عن المحاكم الشرعية
اتسمت سياسة الدولة أيام الإمبراطور هيلا سيلاسي بالطائفية، وتهميش المسلمين، وإضعاف مؤسساتهم القضائية والتعليمية والاجتماعية. وقد تحمل سماحة المفتي الكثير في سعيه للوقوف أمام هذه السياسة المجحفة والدفاع عن المؤسسات الإسلامية، ومن أهمها مؤسسة القضاء الشرعي.
وقد رفض سماحته مجموعة من الإجراءات التعسفية التي اتخذتها الدولة ضد المحاكم الشرعية، وكتب خطابات كثيرة إلى مدير العدل، وإلى الحاكم العام، والملك، وغيرهم، وتحادث معهم طويلاً في مناسبات مختلفة. وفيما يلي اثنان من هذه الإجراءات التي عارضها المفتي:
أولاً: التدخل المباشر من قبل السلطة في تعيين القضاة، متجاوزةً المفتي (صاحب السلطة في ذلك) والإجراءات التي وضعت لاختيار ذوي الكفاءة والدين، وفرض من لا يحملون المؤهلات العلمية من عملاء السلطة، ومضايقة وإقصاء الأكفاء وإبعادهم إلى المناطق النائية.
وقد كتب سماحته رافضًا تعيين أربعة أشخاص تم اختيارهم لمنصب القضاء من قبل الحاكم العام مباشرةً دون أن تتوفر فيهم المستلزمات العلمية والشرعية، وكتب قائلًا بعد ذكر المبررات الشرعية والقانونية لرفضه:
“والخلاصة أني لا أستطيع الموافقة على تعيينهم في القضاء قبل النجاح في الامتحان، فإن حصل تعيينهم رغما عن هذا فواجب المفتي أن يحتج على العمل المذكور ويعمل ما يبرر موقفه أمام المسلمين حتى لا يكون خائنًا لأمانته الملقاة على عاتقه”. (خطاب رقم 13132 بتاريخ 28 نوفمبر 1966م)
وعلى الرغم من معارضة سماحة المفتي تعيين القضاة الذين اختارتهم السلطة ممن لا يحملون المؤهلات الشرعية، فإن السلطة قد قامت بفرضهم على المسلمين وإحداث خلل خطير في داخل المجتمع المسلم. ورغم هذا، ظل سماحته على موقفه الرافض وكتب إلى السلطة في رسالة مطولة في البند رقم (9) مبينًا مخاطر تعيين الجهال في مناصب القضاء قائلًا:
مضرة القاضي الجاهل على المسلمين:
هذه المسألة وإن كانت صغيرة في مظهرها من ناحية كونها مجرد تعيين قاضي، فهي ذات خطورة كبرى إن تكررت، حيث إن القاضي بدون شك هو المدير العام المنفذ للشريعة الإسلامية والمشرف على المسلمين في منطقته من ناحية دينهم. واختياره من قبل أشخاص من غير المسلمين، وعلى الأخص إن كان غير كفء لمنصب القضاء (كهذا الموضوع)، فهو نكبة على المسلمين. فنتيجة لجهله وضعفه يسير تحت ركاب كل من يجره بيده، ويميت العدالة، ويقبل المعرة، ويجلب المضرة على المسلمين، ويعمل ما يتنافى مع دينهم وقوميتهم، ويقبل الأمور التي تضعف مركزهم وحيويتهم وتضيع حقوقهم وتشوه سمعتهم… ” (خطاب رقم 10822) بتاريخ فبراير 1960م)
ثانياً: نقض الأحكام (النهائية) التي أصدرتها محاكم الاستئناف الشرعية العليا عبر جهات غير مسلمة لا تختص بالقضاء الشرعي. وقد كتب سماحته خطاباً إلى الحاكم العام يحتج على تدخل الآخرين ونقضهم لقضية (رقم 757) حكمت فيها المحكمة الشرعية حكماً نهائياً لا استئناف بعده، قائلاً بعد بيان عدم دستورية ذلك التدخل:
“وعملهم يعتبر تدخلاً صارخًا في شؤون الدين الإسلامي وفي واجبات المفتي على الخصوص، واستدلالهم بمواد القانون المدني الأثيوبي في إلغاء حكم قضية شرعية حكمها مجلس العلماء المسلمين أمر غريب حدث لأول مرة في التاريخ. وعلاوة على هذا، قد علمت بأن تدخلاً مماثلاً قد حصل في قضية حكمها قاضي مصوع والأخرى قاضي كرن. لذا إني متأسف على هذا التدخل المتكرر لمخالفته التقاليد والقانون، وأحتج عليه وأطلب العمل اللازم لإيقافه…” (خطاب رقم 12809 بتاريخ 7 سبتمبر 1965م)
وقد حاولت السلطة من أجل تمرير هذه الإجراءات وما شابهها قطع الصلة بين دار الإفتاء والقضاء الشرعي، وهددت المفتي تهديدًا مباشرًا وغير مباشر من أجل إسكاته. يقول سماحة المفتي في رسالة طويلة كتبها ردًا على رسالة مدير العدل:
“خطابكم يتضمن التهديد للمفتي، ولكن المفتي لا يستطيع السكوت عند حصول المساس بالأمانة الملقاة على عاتقه حتى لا يصير خائنًا لدينه ولأمته، وعلى الأخص بعد أن أظهرت مصلحتكم أعمالًا مضرة للمحاكم الشرعية” (خطاب رقم 12839 12 أكتوبر 1965م).
ورغم أن هذه الإجراءات وما تبعها من مواقف قد أنهكت سماحته وأثرت في صحته، فإنه لم يتوانى في التصدي لها وبيان بطلانها من الناحية الشرعية والدستورية، والسعي لإبطالها بكل الوسائل الممكنة إلى أن توفاه الله عز وجل. وبعد وفاته رحمه الله، خلا الجو للسلطة فأصبحت المؤسسات الإسلامية موضع عبث وتلاعب من السلطات الطائفية.

اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!