مقتل نصر الدين سعيد واشتعال الفتنة الطائفية (ملحق نبذة عن المطران مرقص)

استمر الإرهاب السياسي الذي كانت تمارسه عصابات حزب الانضمام لأثيوبيا دون توقف خلال فترة تقرير المصير، وذهب ضحية هذا الإرهاب والعنف عدد من الشخصيات الوطنية من المسلمين والمسيحيين. وكان من بين هذه الشخصيات نصر الدين سعيد باشا الذي اغتيل بعد مضي ما يقارب العام على اغتيال عبد القادر كبيرى. ولم تكتفِ تلك العصابات باغتيال نصر الدين سعيد، بل حاولت عرقلة مسيرة الجنازة السلمية، وكانت النتيجة اشتعال معركة طائفية دامية استمرت أياما وتركت آثارا مدمرة. وقد عايش سماحة المفتي هذا الحدث المؤلم بكل تفاصيله وأبعاده، وفيما يلي بتصرف بعض مما ذكره سماحته في مؤلفه عن هذا الحدث وعن مطران الكنيسة الإريترية.


في الساعة السابعة والنصف من مساء يوم الإثنين 3 من جمادى الأولى 1369هـ، الموافق 20 فبراير 1950، هجم خمسة من الإرهابيين على نصر الدين بن سعيد الجبرتي، عضو الرابطة الإسلامية ورئيس محطة السكة الحديدية في “إمبادرهوا” – على بعد عشرين كيلومتراً من مدينة كرن – وهو يؤدي عمله الحكومي. وقاموا بإصابته بطلقات نارية في جنبه الأيمن. وقد نُقل فوراً جريحاً إلى مستشفى أسمرة، وعند وصوله إليها انتقل إلى رحمة الله. وسَبَب قتله أنه كان قد طُلب منه الانضمام إلى حزب الاتحاد مع إثيوبيا والتخلي عن حزب الرابطة، فرفض، فتوعدوه بالقتل، ثم قاموا بتنفيذ ذلك العمل الإجرامي.

حادثة المعركة الدامية في جنازة نصر الدين سعيد:

وقع مقتل نصر الدين سعيد كالصاعقة على الناس عموماً، وعمّ الحزن والغضب في الجماهير التي خرجت بأعداد كبيرة لتوديع جنازته، والتعبير عن رفضها للإرهاب بكافة أشكاله وألوانه، وإعلان تضامنها مع قياداتها الوطنية. وفي الساعة الثالثة من مساء يوم الثلاثاء 4 جمادى الأولى 1369هـ، الموافق 21 فبراير 1950م، تحرك موكب الجنازة من المستشفى الحكومي بأسمرة، مكوناً من كافة الطبقات والهيئات من المدارس والجمعيات، مع شاراتهم وأزيائهم المخصوصة. وغُطي النعش بعلم الرابطة الإسلامية، ثم سار المشيعون على الترتيب التالي:

  • جمعية شبان الإصلاح
  • جماعة الإخوان
  • جمعية النجاح
  • الجمعية الخيرية
  • جمعية الشبان
  • طلبة المدارس الإسلامية
  • نعش الشهيد
  • العلماء، وفي مقدمتهم سماحة مفتي إرتريا، وقاضي أسمرة والحماسين، وشيخ المعهد الديني الإسلامي، وعلماء البعثة الأزهرية المصرية.
  • أعيان المسلمين ووجهاؤهم، ثم الجمهور.

كان الجميع يمشون بنظام بديع مع الهدوء والسكينة والانضباط التام. وكان عدد المشيعين يزيد على عشرة آلاف شخص. وقد مر موكب الجنازة بثلاثة شوارع رئيسة حتى وصل إلى المنطقة التي فيها مقر “حزب الاتحاد مع إثيوبيا”، وهنا بدأ أنصار الحزب برمي الحجارة على المشيعين وعلى الجنازة، ثم تبعوا ذلك برمي ثلاثة قنابل وإطلاق الرصاص، وذلك بقصد عرقلة سير الجنازة وتعطيلها. وقد حاول المشيعون أن يتجاهلوا هذه الاستفزازات وأن يمضوا قدمًا، ولكن تمادي العناصر المعتدية في هجومها جعل بعض الشباب، الذين كانوا يحملون معهم سيوفهم، يتجهون نحوهم ويصيبون عددًا منهم. وهنا اختلطت الجموع مع بعضها في اشتباكات أدت إلى امتلاء الطرق بجثث الصرعى والمصابين، ثم جاء البوليس الحكومي على الفور وأطلق طلقات نارية لتفريق الجمهور، غير أن ذلك لم يفلح، ورغم كل هذا فقد ثابر المشيعون على السير بالجنازة مع جموعهم الكثيرة تحت وابل من الحجارة والرصاص والقنابل، والجمهور يمر فوق جثث القتلى والجرحى تحت دوي الرصاص وقعقعة السيوف، واستمر سير الجنازة إلى المقبرة وتم دفنها بينما المواجهات مستمرة. وقد قُتل وأُصيب عدد من الطرفين في هذه المواجهات، ثم استمر مسلسل العنف والاقتتال بعد ذلك وبدأ يأخذ منحى طائفيًا شارك فيه بعض رجال الشرطة، وانتشر النهب وتم إحراق بعض البيوت والدكاكين التجارية. ونظرًا لاستمرار الاقتتال ليوم الأربعاء، أعلنت الإدارة البريطانية في مساء يوم الأربعاء منع التجول من الساعة الخامسة مساءً إلى الخامسة صباحًا. وفي صباح الخميس، ابتدأ الشغب مرة أخرى بإشعال النيران في البيوت والمحلات التجارية، وظلت عربات المطافئ تدور في الأحياء طوال اليوم دون توقف. وفي يوم الجمعة – وهو اليوم الخامس – لما كثرت الحرائق والاغتيالات نهارًا، أعلنت الإدارة البريطانية منع التجول نهارًا ابتداءً من الساعة التاسعة صباحًا إلى الثالثة بعد الظهر، مع السماح بساعتين فقط للخروج لقضاء الحاجات، مع بقاء حظر التجول ليلاً كما أعلن سابقًا. وقد أفاد هذا المنع كثيرًا حيث هدأ الاقتتال وتوقفت الحرائق. وقد أدت هذه الحوادث المؤسفة إلى هجر الناس بيوتهم وأحيائهم وانتقالهم إلى أحياء أخرى أو الخروج إلى الأرياف. ولم يسلم من هذه الاغتيالات النساء والأطفال وكبار السن، ومن كبار السن الذين قتلوا غدرًا كان الشيخ عبدو إبراهيم، الذي قُتل عقب انتهائه من فريضة الظهر، “وكان شيخًا زاهدًا محترمًا ذا وجاهة، وملازمًا للتقوى والصلاح”.

في مساء يوم الخميس، وبطلب من حاكم عام أرتريا، عقد إجتماع في مكتب الحاكم العام بحضور سماحة المفتي والمطران مرقص ونائبه، حيث أعرب الحاكم العام عن أسفه لما حدث في جنازة نصر الدين سعيد، ثم طلب من سماحة المفتي والمطران أن يطوفا سويا على جميع المناطق والأحياء، ويطلبا من الجماهير وقف الإقتتال والقبول بالمصالحة، وقد قبل سماحته والمطران ذلك، وطلب المطران إضافة أشخاص آخرين يمثلون الكاثوليك والبروتستانت، ولكن المحافظ لم يوافق على ذلك بإعتبار أنهم أقليات لا عبرة لهما.

تحرك ركب المفتي والمطران في صباح يوم الجمعة في أربع سيارات؛ الأولى فيها رجال البوليس مع أسلحتهم، والثانية فيها مفتش أسمرة ومساعده والمترجم العربي، والثالثة فيها المفتي والمطران، والرابعة فيها قاضي أسمرة والحماسين ونائب المطران. مر الركب على الأحياء الرئيسية التالية:

“قزا برهانوا” و “عداقة عربي” و “أكريا” و”عداقة حموس” و”أباشاول” و”حدش عدي” و”قزاباندة”.

كانت الخطة المتبعة أن يُنادَى بالميكرفون في كل حي بالعربية والتجرينية بأن يخرج السكان من مساكنهم ليستمعوا إلى نصيحة المفتي و”الأبون”، وأن البوليس لن يتعرض لهم بأذى؛ وبعد أن يتجمع الناس، كان المفتي يخطب أولاً ثم المطران ثانياً في المناطق التي يكثر فيها المسلمون، والعكس في المناطق التي يكثر فيها المسيحيون، ثم بعد ذلك يُنادَى على الجميع بالعودة إلى مساكنهم. وبعد إتمام الركب المرور بالأحياء المذكورة، اتجه سماحة المفتي وبصحبته المطران إلى محطة الإذاعة بأسمرة، فألقى سماحته كلمة تلتها كلمة المطران. وقد استجابت الجماهير لنصيحة المفتي والمطران فتوقف الاقتتال، وإن كان النهب لم يتوقف إلا بعد ثلاثة أيام، حيث نهبت مخازن كثير من تجار المسلمين. يقول سماحته في تعليقه على توقف الاقتتال: “وفرح بهذا عقلاء المسلمين والمسيحيين جميعاً، وأما صعاليك اللصوص والغوغاء فقد ساءهم توقف القتال وبدء المصالحة، حيث إنهم كانوا قد اغتنموا أموالاً طائلة…”

وفي يوم السبت 8 من جمادى الأولى 1369هـ الموافق 25 فبراير 1950م، اجتمع الأقباط عند مطرانهم، والمسلمون في الجامع للتشاور فيما يجب فعله لقطع الشغب نهائياً، فاتفقوا على أن يحلف المسؤولون من الطرفين بمنع اعتداء كل من الطائفتين على الأخرى، وعينوا أربعة أشخاص من الطرفين، وكان يمثل الطرف الإسلامي:

وكلف هؤلاء الثمانية بأن يكونوا قضاة بين الطائفتين، حيث حلف أمامهم 31 مسلما بالقرآن و31 قبطيا بالإنجيل على أن يمنعوا الشعب من ارتكاب حوادث الشغب والعنف.

ونظرا لانتشار أخبار هذه الحادثة إلى مناطق أخرى، وخشية من اتساع الفتنة فان لجنة الصلح اجتمعت وذهب أعضائها مع بعض الأعيان إلى مقابر القتلى في صباح الأحد 7 جمادى الثانية 1369هـ الموافق 24 مارس 1951م، واتجهوا حاملين الزهور يحملهما من الناحيتين مسلم ومسيحي، ووضعوا الزهور في مقبرة المسيحيين، وتبادلوا الخطب في تناسي ما وقع من الحوادث، والمحافظة على السلم، والإبتعاد عما يخل بالأمن العام، وفعلوا مثل ذلك في مقبرة المسلمين. وقد شارك في هذه المراسم جمهور كبير من عوام الناس، وكان ممثل المسلمين:

–             القاضي إدريس حسين سليمان

–             والشيخ سليمان الدين أحمد

–             ودقيات[2] حسن علي

–             وبلاتة نقاش؛ ويمثل المسيحيين مجموعة من القساوسة.

وبعد إنتهاء الحوادث كونت الحكومة لجنة للتحقيق في خسائر الحادثة وأمرت المنكوبين بأن يقدموا خسائرهم إلى اللجنة. وقد استمعت اللجنة إلى شهادة 73 شاهدا، وانتهت من التحقيق في نفس الشهر، “ولكن كان تحقيقا نتيجته عبث لم يترتب عليه شيء”. وقد بلغ عدد القتلى 62 والجرحى 180، ويعتقد أن العدد أكبر من هذا حيث تم إخفاء بعض الجثث ودفنها دون إعلام الجهات الرسمية. أما الخسائر المالية فقد كانت عظيمة جدا، وقد تغلب الجزع على النفوس بما لم يسبق له مثيل.

مطران إرتريا للمذهب الأرثوذكسى، مرقص الإنجاني

  • اسمه ونسبه: جبرى أملاك ابن تسفا إذقي ابن ذي جرجس بن شوم كفلى، من قبيلة “إنجانة”، التي تعود بالنسب إلى قبيلة حزوا السيهاوية والقاطنة في منطقة مركز “دقى أمحرى” من مديرية “أكلى غوزاى”.
  • ميلاده وتعليمه: ولد في عام 1884م، وتعلم الطقوس الدينية في إرتريا، وصار رئيسًا لدير “بيزن” في مديرية حماسين.

مواقفه السياسية:

  • ناصر الإيطاليين وأيدهم في غزوهم لأثيوبيا في عام 1935م. وبعد احتلال إيطاليا لأثيوبيا، تم تعيينه مطرانًا للمذهب الأرثوذكسى بمساعدة القائد الإيطالي “جرازياني”، وأصبح يعرف بـ “مرقص”، وهو أول مطران للمذهب الأرثوذكسي لأرتريا، وكان مطرانًا على أرتريا وتجراى، حسب حدود أرتريا بعد الاحتلال الإيطالي. وقد خصصت الحكومة لسكناه القصر الحكومي الموجود حول كنيسة القديسة مريم بأسمرة.
  • بعد عودة الإمبراطور الأثيوبي إلى عرشه بأديس أبابا إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية، اتصل به المطران وتوثقت صلته به، وفي داره بأسمرة ولد حزب انضمام أرتريا إلى أثيوبيا، وكانت الحركة الفعلية للحزب من داره. ولما عين “نقا هيلى سلاسي”، من أقارب الملك، ضابط المواصلات لأثيوبيا في أرتريا، وصار مقره في أسمرة في عام 1946م، أصبحت إدارة حزب الانضمام الفعلية مشتركة بينهما إلى أن تم اتحاد أرتريا مع أثيوبيا.
  • كافأته الحكومة الأثيوبية بمنحه عدة نياشين وهدايا. وأصلحت حكومة أرتريا قصره وجددته.
  • في عام 1957م اختاره الملك عضوًا في مجلس الشيوخ الأثيوبي بأديس أبابا ليمثل أرتريا فيه مع زملائه مطارنة أقاليم أثيوبيا.
  • في عام 1959م (بعد تعيين بطريرك لأثيوبيا)، نصب المذكور مطرانًا على أرتريا في احتفال أقيم في أديس أبابا، مقررًا تبعيته لبطريرك أثيوبيا الجديد، وتبعية أرتريا لأثيوبيا.

وفاته:

توفي المطران في حادث شابه شيء من الغموض، إذ خرج من أسمرة في صباح يوم السبت 5 نوفمبر 1960م، في موكب يضم بطريق الإسكندرية الزائر لأرتريا، ومعه حاشيته المصرية وممثل الإمبراطور ورئيس حكومة أرتريا. وكان المطران في سيارته مع بعض رفقائه، فلما وصلت السيارة إلى منطقة تبعد 62 كيلومترا من أسمرة في طريق مصوع في “دنقل”، هوت السيارة وجرح المطران جرحا بليغا، ومكث في المستشفى إلى أن توفي في 16 نوفمبر 1960م في المستشفى الحكومي بأسمرة. وبعد وفاته ظهرت همسات حول سبب وفاته في ظل سلامة الموجودين معه في السيارة، وذلك لأن علاقته مع الحكومة الإثيوبية في الفترة الأخيرة كانت متوترة.

ورغم التباين الكبير في المواقف بين سماحة المفتي والمطران في القضايا السياسية والوطنية، فقد كان سماحته على اتصال مستمر بالمطران، متعاوناً معه في تحقيق الصالح العام للوطن، وفي درء الفتن الطائفية، والدعوة إلى التسامح والتعايش السلمي. وقد سافر سماحته بصحبته إلى مناطق مختلفة من القطر، وشاركاه في مناسبات ولقاءات مهمة.


[1] بلاته: لقب فخري.

[2] دقيات: لقب فخري.

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *