مقتل الشهيد عبد القادر كبيرى في عام 1949م

لقد كان اغتيال الأستاذ عبد القادر كبيرى حدثًا خطيرًا هز أرتريا هزًّا عنيفًا، وأحدث فيها شرخًا عميقًا. والدافع لهذا الاغتيال كان سياسيا، هدفه تقويض المشروع الوطني الداعي لاستقلال أرتريا. وكان الأستاذ عبد القادر من أبرز رموزه وأهم قادته. ورغم الخسارة التي منيت بها الحركة الوطنية بفقده، إلا أن المشروع الاستقلالي، رغم العثرات، ظل حيا وبقي الأستاذ عبد القادر معلما من معالمه النيرة. وقد شهد سماحة المفتي هذا الحدث وعايشه من كثب، وكان في مقدمة مشيعي الشهيد، حيث أم جموع المصلين في إقامة صلاة الجنازة عليه.

وفيما يلي بتصرف بعض ما ذكره سماحة المفتي في مؤلفه عن هذا الحدث.


الولادة والنشأة:

  • ولد الأستاذ عبد القادر في جزيرة دسي، إحدى جزر مصوع، في عام 1902م.
  • تلقى تعليمه في موطنه، ثم التحق بالعمل الحكومي كموظف في الحكومة الإيطالية.
  • أقام في اليمن فترة من الزمن في مهمة حكومية، وتزوج هناك.
  • ترك العمل الحكومي وانخرط في ميدان العمل التجاري ونجح فيه.
  • قام بأدوار اجتماعية مهمة[1]، وكان عضوا في المجلس الإسلامي الأعلى للتعليم في إريتريا.

انخراطه في العمل السياسي:

شارك في العمل السياسي منذ فترة مبكرة، ولما أنشئ حزب الرابطة الإسلامية الأرترية -الداعي لاستقلال أرتريا- كان في مقدمة مؤسسيه ومن أكبر خدامه، وقد تولى رئاسة فرع الرابطة بأسمرة. وتقديرا لخدماته واعترافا بخبراته السياسية، قرر المجلس الأعلى للرابطة إرساله مع أول وفد يسافر إلى أمريكا للدفاع عن حقوق أرتريا.

محاولات التخلص منه:

ولقد كان الشهيد مصدر قلق وارتياع للعناصر الموالية لأثيوبيا نظرا لاحتكاكه السابق بهم، ومعرفته الدقيقة لخططهم وأساليبهم. وقد كتب في ذلك العديد من المقالات في الصحف. ولذلك حاولوا محاولات شتى لقتله والتخلص منه، وخاصة بعدما علموا بقرار الرابطة بإرساله إلى أمريكا. وقد حذره كثير من أعيان البلد ونصحوه بأن يأخذ الحذر والحيطة، ولكنه ما كان يبالي بالمخاطر التي تحيط به، بل كان يقول: “سأموت في الوقت المحدد لي في الأزل.”

وقبل اغتياله كان قد تعرض لهجوم بالقنابل عدة مرات، وقد ذهبوا إلى مزرعته في “فلفل” – حول العاصمة أسمرة -، حيث قاموا بتخريبها ونهب جميع بهائمها.

كيفية مقتله:

وبناء على قرار الرابطة الإسلامية بإرسال الوفد إلى أمريكا بدأ الوفد المكون من الأساتذة: إبراهيم سلطان علي (السكرتير العام للرابطة)، ومحمد عثمان الحيوتي (فرع الرابطة بمصوع)، وإبراهيم محمد (فرع الرابطة بعدي قيح)، يستعد استعدادا حثيثا للسفر. ولأن هذا الوفد كان أول وفد يتجه لمقر الأمم المتحدة، جاءت الوفود من مختلف المديريات لتوديعهم والسلام عليهم.

وفي ليلة اغتياله، كان الشهيد ساهرا مع رفقائه في فندق “الخليفة أبره”، يتبادلون الحديث في أمور السفر ولوازمه. وفي حوالي الساعة التاسعة ليلا فارق رفقاؤه وخرج من الفندق قاصدا منزله، و كان المجرم يتتبع خطاه وهو يمشي في شارع كاليري بأسمرة، فلما وجد الفرصة سانحة أطلق عليه الرصاص من مسدسه في الشارع بين جموع المارين. وفر الجاني في الحال، ونقل الشهيد إلى المستشفى الحكومي بأسمرة، حيث أجريت له عملية جراحية بواسطة كبار الجراحين الإيطاليين، ولكن ذلك لم يجدي شيئا، فتوفي في المستشفى في الساعة التاسعة ليلا من مساء الأربعاء غرة جمادى الثانية 1368 الموافق 30 مارس 1949[2]، أي في الليلة الثالثة بعد إصابته.

بيان المجلس الأعلى للرابطة:

وعقب وفاته عقد المجلس الأعلى للرابطة الإسلامية الأرترية اجتماعا وأصدر بيانا خلاصته بعد ذكر الحادثة ما يأتي:

“إن المجلس الأعلى للرابطة ينعي للشعب الإسلامي وفاة الشهيد عبد القادر محمد صالح كبيري ويطلب منه أن يلزم الهدوء والسكينة، وإن المجلس يستنكر بشدة هذه الأعمال الإجرامية في حياة رؤساء الرابطة الإسلامية منذ سنة 1946م، ويذكر الشعب الإسلامي أن مثل هذه الأساليب لا تؤدي إلى شيء من النجاح بالنسبة إلى مرتكبيها ولا تؤثر في عزائم القادة المخلصين أو توهن من روح الشعب الإسلامي، وإنه ليبرئ ساحة الشعب الأرتري قاطبة من هذه الجناية، إذ لا شك أن فاعليها ليسوا إلا شرذمة قليلة تعمل لحساب بعض المعادين للرابطة الإسلامية.”

ثم طلب البيان من جميع المسلمين إغلاق حوانيتهم ومدارسهم في جميع مدن أرتريا طيلة يوم الأربعاء، حدادا على الفقيد وإقامة صلاة الجنازة على روحه بعد صلاة الجمعة في جميع جوامع أرتريا.

موكب جنازته:

نقل جثمانه إلى داره، وتحرك موكب الجنازة من منزله في حي “قزا برهانو” في الساعة الثانية عشرة ظهرا، وقد لف نعشه بعلم الرابطة الإسلامية. سار أمام الجنازة طلبة المدارس الإسلامية، وشبان جمعية الرابطة، وجمعيات شبان المسلمين، ثم سار العلماء خلف النعش، وبعدهم المدرسين، والأعيان، ورجال الحكومة، والجاليات الأجنبية. واكتظت الشوارع كلها، حتى كان موكب الجنازة  يتوقف عدة مرات نظرا لكثرة الازدحام.

ثم أقيمت عليه صلاة الجنازة بإمامة سماحة المفتي، وعقب السلام رثاه رئيس فرع الرابطة بمصوع الشيخ ياسين محمد باطوق بكلمة مؤثرة، ثم بعده السكرتير العام للرابطة الشيخ إبراهيم سلطان…. ثم ناظر المدرسة الإسلامية بالنيابة عن المدرسين، ثم الشيخ عبد الله باصالح الحضرمي رثاه بقصيدة، ثم سيوم معشو -بالنيابة عن حزب الأحرار والتقدم-، ثم آخرون. وبعد ذلك وضع جثمانه في مقره الأخير في الساعة الثانية إلا ربع، والأسف والحزن يعم المسلمين. وقدر عدد من حضر جنازته بعشرة آلاف شخص.

ما قيل في رثائه:

والمراثي التي قيلت في الشهيد من النثر والشعر كثيرة، منها أبيات لرفيقه ياسين محمد باطوق:

يا خادم الإسلام أجر مجاهـــد                في الله من خلد ورضـوان

الله يشهد أن موتك بالحجـــى              والجد والإقدام والعـرفــان

إن كان للوطنية ركن قائــــم                 في هذه البلاد فأنت الباني

ورثاه أحد الأدباء بأبيات منها:

أنعم كبيرى في جنان آمنــــــــــا             واهدأ فذكرك في القلوب مجدد

ما كنت إلا دوحة فينانــــــــــــــة             آوت كل شريد قلب أميـــــــــد

أنقذت أمتك الفتيـة مـــــــن ردى           ومهدت للقوم الطريق المعبـــد

ولقد سعيت وما ونيت ولم تكـــل         لك همة أو تنثنى كمبلـــــــــــد

أنرت للهدي المنير سبيلـــــــــــه            ومشيت ماضي العزم لا تتردد

حتى إذا ما رمت تشرف من علاه         أرداك سهم من أثيم معتــــــــد

…….

ورثاه الأمين علي كرار بقصيدة منها:

أرتريا وإن تبكيك في كـل خــــــدر       وتصوغ رثائك في كل نـــــاد

ستقص على الأجيال جيلا بعد جيل     كيف فديت الوطن في الميعاد

التحقيقات الحكومية:

ولقد نشرت الصحف تعزية حاكم عام أرتريا البريطاني ووعده بعمل كل ما يلزم للقبض على الجاني.

والذي ظهر من تحريات البوليس، أن المجرم ومساعدوه كانوا يتتبعون خطى الشهيد ويراقبونه عن كثب، وفي ليلة الحادثة قاموا بتحويط شارع كليرى حيث وضعوا أربعة سيارات في كل ركن من أركان الشارع ليتمكن المجرم من الهرب بأي واحدة منها، فلما وصل الشهيد إلى موضع قليل الضوء، أطلقوا عليه الرصاص، وفر المجرم من مكان الحادث، وتم تهريبه فيما بعد إلى أثيوبيا.

والجمعية الإرهابية المسماة “أندنت” -التابعة لحزب انضمام أرتريا إلى أثيوبيا- ظلت تعيث في الأرض فسادا، بقتل زعماء الرابطة وغيرهم ممن يعارضون انضمام أرتريا إلى أثيوبيا، وكان الشهيد عبد القادر أول ضحاياها. وفي يوم 7 جمادى الثانية 1368 هجرية الموافق 6 أبريل 1949م، قد صدر أمر من حاكم عام أرتريا البريطاني بحل الجمعية المذكورة ومصادرة ممتلكاتها. وقد قام البوليس بتفتيش عدد من مخابئها ووجد ضمن أوراقها كشفا لأسماء الجماعة الذين قررت قتلهم غيلة من زعماء الرابطة الإسلامية، وكان اسم سماحة المفتي  ضمن هؤلاء كما أخبره بذلك البوليس.

يقول سماحة المفتي:

“ولما علم محافظ أسمرة ذلك ناداني إلى مكتبه، وقال لي: لا تذهب إلا مع الحرس، وأنا أعمل لك جنديا يحرسك …” ويستطرد سماحته فيقول: “وقد هجموا على منزلي عدة مرات، بلغ عددها تسعة هجمات، رغم أنني لم أكن منتميا إلى أي حزب، ولكن الله حماني من شرهم.”

ورغم أن الرابطة الإسلامية الأرترية قد نكبت بمقتل زعيمها المذكور، فإنها لم تثني عزمها عن الدفاع عن حقوق أرتريا، فأحضرت حالا ابنه من مصر -محمد صالح عبد القادر كبيرى-، حيث كان طالبا في إحدى الجامعات المصرية، وعينته في مكان والده الشهيد، وابتعثته إلى مدينة نيويورك -مقر الأمم المتحدة- ضمن وفد الرابطة.


[1] يشير محمد الكيلاني في كتابه: الحبشة المسلمة، إلى أنه التقى بالأستاذ عبد القادر أثناء لقائه بأعيان أسمرة في منزل أحمد حسين الحيوتي عام 1936م، ويقول عنه: “وبعد انتهاء الكلام، وقف الشاب عبد القادر كبيرى، من كرام التجار، والقى كلمة بلغة عربية صحيحة، تفيض عاطفة طيبة وشعورا كريما.” انظر: الكيلاني، الحبشة المسلمة، مكتبة عرفة، 1937م، ص 127.

[2] ذكر المؤرخ “ألم سقد” في كتابه: “لن نفترق”، أن الوفاة كانت في 29 مارس 1949.

1 عدد الردود
  1. باسم
    باسم says:

    رحمه الله و غفر له… اللهم اجعل من ذريته من يكمل مسيرته في خدمة الاسلام و المسلمين

    رد

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *