مظاهرات مفتعلة إثر حرق الطائرة الأثيوبية في مطار فرانكفورت
نقل بتصرف من كتابات سماحة المفتي.
- في يوم الثلاثاء 22 من ذي الحجة 1388هـ الموافق 11 مارس 1969م، تم إحراق طائرة الخطوط الأثيوبية في مطار مدينة فرانكفورت بألمانيا بعد إنزال جميع من كان فيها من الركاب. وقد نسبت الإذاعات العالمية، ومنها صوت أمريكا، الحادثة إلى جبهة التحرير الأرترية، ونقلت على لسان الجبهة التهديد بالاستمرار في حرق أي طائرة أثيوبية يجدونها في مطارات العالم إلى أن تتحرر أرتريا بالكامل من الحكم الأثيوبي.
- وقد نسبت الصحافة الأثيوبية الحادثة إلى الحكومة السورية، وظلت تكرر هذا الاتهام وتنشر الدعايات المضادة لسورية ولجبهة التحرير الأرترية، رغم نفي الحكومة السورية أي علاقة لها بهذه الحادثة. وقد استغلت الدولة هذه الحادثة فاستمرت في شن حملة دعائية ضخمة عبر وسائل إعلامها ضد سورية، و ضد “الخارجين على القانون”، والعرب عموما مدة أسبوعين من الزمن، ثم قامت بتدبير مظاهرة كبيرة جمعت لها الأفواج من كافة المديريات الثمانية في أرتريا، وتمت المظاهرة في يوم السبت 4 من محرم 1389هـ الموافق 22 من مارس 1969م، في مدينة أسمرة. وقد تجمع المتظاهرون في ملعب المدينة الرئيس، وقام الخطباء واحدا تلو الآخر بالمطالبة بالانتقام من سوريا وطرد العرب كلهم من أثيوبيا، وكان المتظاهرون يحملون لافتات وزعت عليهم بأعداد كبيرة مكتوب عليها شعارات تطالب بطرد العرب وإبعادهم من البلاد. وقد مرت المظاهرة بشوارع أسمرة، وتوقفت أمام إدارات القناصل الأمريكية والبريطانية والفرنسية، ثم اتجهت من هناك إلى مبنى رئاسة الحكومة، حيث خرج الحاكم العام من مكتبه، وأطل على المتظاهرين أمام المبنى. وقد نشرت الجريدة الحكومية تفاصيل المظاهرة في صفحتها العربية الصادرة في يوم الأحد التالي، وفيما يلي بعض ما نشرته بنصه:
“أكثر من مئة ألف مواطن يتظاهرون يوم أمس ضد المؤامرات السورية، وضد مسلك بعض الجهات العربية تجاه الوطن الأثيوبي. المتظاهرون يطالبون بترحيل جميع العرب النزلاء من كافة أنحاء أثيوبيا. سمو راس “أسراتى كاسا”[1] حاكم عام محافظة أرتريا يناشد الجميع بالهدوء والمحافظة على النظام إلى أن يبت في طلبهم.”
- ويناقض سماحة المفتي ما ذكرته الصحف من تقدير عدد المتظاهرين بمئة ألف، ويؤكد أن عددهم كان لا يتجاوز الخمسة الآف شخص.
- وفي يوم الإثنين، سافر من أسمرة دجيازماش “تسفا يوهنس برهى”، نائب الحاكم العام، إلى أديس أبابا وسلم الإمبراطور شكوى المتظاهرين، وألقى أمامه كلمة نيابة عنهم، فرد عليه الملك بأنه سيعمل اللازم لتنفيذ شكواهم، ونشرت الصحف خبر هذا اللقاء بتفاصيله.
- وفي صباح الجمعة 10 من محرم 1389هـ الموافق 27 من مارس 1969م، قام أبناء الجالية العربية من كافة المديريات الأرترية بمظاهرة في شوارع أسمرة، اتجهت إلى دار الحاكم العام، حيث ألقى هناك الحاج سالم عبيد باحبيشي[2] كلمة باللغة العربية ترجمها إلى الأمهرية مدير مديرية “أكلى غوزاي”، الأستاذ على حيقوا، ونشرت الصحافة أخبار هذه المظاهرة وكلمة الحاج سالم “مع زيادات لم يقلها” هو. ثم أرسل أبناء الجالية العربية تلغرافات إلى عدة جهات منها:
- سكرتير الجامعة العربية بالقاهرة،
- سكرتير مؤتمر العالم الإسلامي بجدة،
- ملك المملكة العربية السعودية بالرياض،
- رئيس جمهورية اليمن بصنعاء،
- رئيس جمهورية اليمن الشعبية بعدن.
- وقد نشرت جريدة الوحدة الحكومية نص التلغراف كاملا، وفيها استنكار للاعتداء السوري، وطلب من هذه الجهات المذكورة بمنع سوريا من ممارسة عدوانها ضد أثيوبيا باسم العرب والإسلام.
- ونتيجة لهذه الحملة المسعورة، سادت في البلاد أجواء معادية وخطيرة للجالية العربية[3]، ولذلك أصدرت الجامعة العربية بيانا تحذر فيه أثيوبيا بأنه إذا حصل أي ضرر تجاه العرب في أثيوبيا فإنها لن تقف مكتوفة اليدين وسترد بالمثل. وقد اضطرت الحكومة الأثيوبية، عبر وزير استعلاماتها، للتأكيد على أن العرب في أثيوبيا لن يصابوا بأي ضرر، وأن المظاهرات التي قامت إنما كانت ضد سوريا لمساعدتها “الخارجين على القانون.”
- وكانت الجالية العربية، تحسبا لما قد يحدث، قد جهزت حوالي 300 شخص من أفرادها الفقراء لتسفيرهم إلى بلادهم، وجمعت التبرعات لذلك الغرض، وقدمت أسماء هؤلاء الأشخاص إلى إدارة الرخص الأثيوبية بأسمرة للسماح لهم بمغادرة أرتريا، ولكن إدارة الرخص بأسمرة رفضت منحهم الرخص، خوفا مما قد يترتب على ذلك من الدعايات، وردود الفعل في العالم العربي.
- ورغم مزاعم وزير الاستعلامات الأثيوبي، فإن الدولة ظلت تضايق الجالية العربية وتبتزها بكل وسيلة ممكنة. ويؤكد سماحته أن هذا كان جزءا من التوجه الطائفي الذي كانت تنتهجه السلطة من أول يومها تجاه العرب خصوصا والمسلمين عموما. ومن أمثلة هذه المضايقات ما نشرته الصحف في يوم الثلاثاء 5 من صفر 1389هـ الموافق 22 من أبريل 1969م، من صور فوتوغرافية لثلاثة من تجار العرب الحضارم وهم: الشيخ سالم سعيد باحكيم، والشيخ سالم إبراهيم باداود، والشيخ سعيد عمر باجي، متهمة إياهم بتقديم المساعدة لثوار جبهة التحرير الأرترية، معلنة قرار الدولة بطرد الأول من أرتريا مع عائلته في ظرف 48 ساعة لامتناعه من الاعتراف بالتهمة، والحكم على الآخرين بما تفرضه عدالة الحكومة لأنهم اختاروا الاعتراف بالتهمة المنسوبة إليهم. يقول سماحة المفتي: “وقد سمعنا بأن كل واحد منهما غرم ب 4 ألاف دولار.”
موقف المفتي من هذه المظاهرات:
- وقد وصلت إلى مسامع سماحة المفتي شائعات عن عزم الحكومة لإقامة المظاهرة المذكورة أعلاه، وكان عازما على عدم المشاركة فيها، ولكن السلطة ألحت عليه إلحاحا شديدا بالحضور، حيث جاء إلى منزل سماحته مبعوث السلطة، “قنازماش قلاتي”، أخو “تسفا يوهنس برهى”، نائب الحاكم العام، ليكلمه في هذا الأمر، فلم يقابله سماحته، فجاءه بعد ذلك خطاب رسمي باللغة العربية بإمضاء سكرتيرة الحاكم العام، طالبة من سماحته الحضور إلى مكتب الحاكم لأمر مهم دون ذكر طبيعة هذا الأمر. وهذا نص الرسالة:
“أمرني الأمير رأس أسراتى كاسا حاكم عام أرتريا أن أعرفكم بأنه سينتظركم باكر يوم السبت 22 من مارس 1969م، في الساعة الثامنة والنصف في مكتبه في بناية المحافظة لموضوع له أهمية كبرى.”
- ولضمان حضور سماحة المفتي، وقبيل الموعد المحدد لسماحته للالتقاء بالحاكم العام، حضر إلى منزل سماحة المفتي ثلاثة من مستشاري الحاكم العام، ليذكروه بالموعد ويؤكدوا له أهمية الحضور، طالبين منه عدم التخلف بأي حال من الأحوال. وقد حضر سماحته الاجتماع، وحضر معه رجال الكنسية وعلى رأسهم أسقف الأرثوذكس الأمهراوي، وأسقف الكاثوليك الوطني.
- يعتبر سماحة المفتي هذه المظاهرات التي أقيمت في أسمرة ، مظاهرات مفتعلة أرغم الناس على القيام بها ولا تمثل شيئا من إرادتهم. يقول سماحته: إن المظاهرتين … المنسوبة إلى الشعب الأرتري وإلى الجالية العربية بأرتريا، مع تلغرافه الطويل المنسوب إلى الجالية … كلها من صنع الحكومة، ونفذ بقوتها وبتهديداتها وحيلها المباشرة، وليس باختيار أحد من الشعب، ولا من أفراد الجالية العربية، فلذا تعتبر مظاهرة مفتعلة لا غير…”
___________________________________
[1] أسراتى كاسا:
- من مواليد عام 1918م، والده كان حاكما لإقليم “غندر” في أثيوبيا.
- درس في بريطانيا، ثم في مدرسة خرطوم العسكرية، حيث نال منها درجة ملازم أول، تولى بعدها منصب الحاكم العام في عدة مقاطعات أثيوبية.
- عين حاكما عاما لأرتريا في ديسمبر عام 1963م، خلفا للفتننت جنرال “أبي أببى”.
- تم عزله من منصبه في عام 1970م، وخلفه الجنرال “دببي هيلي ماريام”، قائد الحرس الإمبراطوري.
- أعدم في عام 1974م، مع مجموعة من كبار رجالات الدولة إثر الانقلاب العسكري في أثيوبيا.
- ساءت الأحوال في أيام حكمه لأرتريا، واتسعت حملات القمع والتصفيات، ودمرت الكثير من القرى، وقتل وشرد المئات على أيدي قوات الكوماندوز الخاصة، التي دربت بتوجيهه على يد مدربين إسرائيليين.
- اتسمت علاقته بسماحة المفتي بشيء من التوتر، حيث رفض سماحته في عدد من المواقف الانصياع لأمره، والسكوت على تجاوزاته. وفي أول لقاء له مع سماحته، قال لسماحه: “أنا سأتعلم العربية وأنتم تتعلمون الأمهرية حتى نستطيع التخاطب مباشرة بدون مترجم”، فرد عليه سماحته ممازحا : “أسهل أن تتعلم أنت، أما أنا فعجوز لا أصلح للتعليم.” وقد طلب الحاكم العام من سماحته في هذا اللقاء معاونته ومشاركته في خدمة الشعب.. فشكره سماحته وأكد له استعداده للتعاون فيما فيه المصلحة العامة ، وبين له أن منطلقه مستند على مبدأ محاربة التفرقة، وإزالة أسبابها ووسائلها…
[2] الحاج سالم باحبيشي:
- من أبرز التجار والوجهاء في أرتريا. شملت مشاريعه الخيرية مدن أرتريا ومؤسساتها المختلفة. وهو شقيق المحسن الكبير الشيخ أحمد باحبيشي.
- يقول سماحة المفتي عن الحاج سالم في معرض ترجمته للشيخ أحمد باحبيشي: “وأما من ناحية بذل المال للمؤسسات الدينية، فقد خلفه شقيقه سالم أحمد عبيد باحبيشي، فإنه قد صرف نفيس أمواله وأوقاته في هذه الخدمات الخيرية كسلفه.”
- استقر الحاج سالم في السبعينيات في مصر، واستمر في دعم المشاريع الخيرية إلى أن توفي فيها.
[3] يقدر عدد أبناء الجالية العربية في أرتريا وأثيوبيا بعشرات الآلاف، أغلبهم من اليمن، ويمارسون العمل التجاري. وكان لهم دور ملحوظ في الانتعاش الاقتصادي والعمل الخيري في أرتريا. وقد رحل أغلب أفرادها إلى اليمن والخليج بعد ازدياد الاضطرابات في أرتريا.
اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!