مؤتمر كرن التأسيسي الأول والثاني لعامي 1946 و 1947

بعد انتهاء الاستعمار الإيطالي وحلول الانتداب البريطاني في إرتريا، ظهرت بوادر العمل السياسي والحزبي في إرتريا، وبالذات بعد بدء المداولات بشأن تقرير مصير إرتريا. وظهرت في هذه الأثناء تيارات متعددة، بعضها يدعو إلى التجزئة وبعضها إلى الانضمام إلى إثيوبيا. وقد نشطت العناصر الموالية للانضمام نشاطًا ملحوظًا، مسنودة وممولة تمويلًا كاملًا من قبل الحكومة الإثيوبية، مع حصولها على مباركة ودعم أسقف الكنيسة المحلية. وقد قامت عدة محاولات من القيادات الوطنية لجمع الصفوف واتخاذ موقف موحد يخدم مصالح الشعب الإرتري، ولكن هذه المحاولات باءت بالفشل نتيجة لتدخلات العناصر الداعية للتجزئة والانضمام. وكان مما يحز في نفوس الغيورين المخلصين من أبناء البلد عدم وجود هيئة منظمة تدعو لوحدة إرتريا واستقلالها وتدافع عن حقوق المسلمين.

وبعد فشل اجتماع “بيت جرجيس” المشهور وفشل مساعي الانضماميين في تأسيس رابطة للمسلمين تدعو للاتحاد مع إثيوبيا، بدأت الاستعدادات لعقد مؤتمر عام في كرن. وهذا المؤتمر جاء نتيجة لمشاورات استمرت “أيامًا وليالي وشهورًا” على مستوى القطر. وقد تم اختيار مدينة كرن لتكون موضع عقد المؤتمر، وتم تكليف السيد محمد أبوبكر الميرغني، زعيم الطريقة الميرغنية (أشهر الطرق الصوفية في إرتريا)، بتوجيه الدعوة إلى أعيان البلد وزعمائها. وفيما يلي نص رسالة الدعوة التي وصلت إلى سماحة المفتي:

حضرة صاحب السماحة مفتي الديار الأرترية الشيخ إبراهيم المختار أحمد عمر.
نحيطكم علما بأن مسلمي كرن وضواحيها وجميع القبائل التي تنتمي إليها قد رغبوا في اجتماع عام لتأسيس رابطة إسلامية بكرن، نظرا لتوسطها لكل الجهات. والهدف المنشود لذلك تحقيق الفائدة التي تعود لصالح مستقبل أرتريا المنتظر، ولا شك أن هذه الفكرة في بالكم والأمل أن تكون كلمة أرتريا المسلمة متحدة. واتحاد الكلمة لا يحصل إلا بالاجتماع وتبادل الآراء من كافة المسلمين الأرتريين الذين لهم الرأي والنفوذ، لذا نأمل بحضوركم في أقرب زمن للاشتراك في هذا الاجتماع لنتوصل بحضوركم إلى نتيجة حسنة، ونرجو الإفادة عاجلا والسلام عليكم ورحمة الله.
حرر في غرة ذي الحجة 1365 الموافق 27 أكتوبر 1946م
عن مسلمي كرن: محمد أبوبكر الميرغني.

وقد وجدت هذه الدعوة تجاوبًا واسعًا من كافة الأطراف، وعُقد المؤتمر في مدينة كرن بحضور ثمانية آلاف شخص من العلماء والقضاة وعُمد ونظار القبائل من جميع أنحاء القطر. وقد عُقد المؤتمر في أرض فسيحة نُصبت فيها السرادق الكبيرة، وزُينت بأبدع الزينات، ووضعت الثريات الكهربائية في جوانبها المختلفة، وصُفّت فيه أعداد كبيرة من الكراسي، وكان تجمعًا فريدًا يكاد يكون الأول من نوعه في القطر. استمرت المداولات في هذا المؤتمر مدة ثلاثة أيام، ورغم محاولات التشويش على المؤتمر وإفشاله من العناصر الموالية للانضمام والتجزئة، فإن المؤتمر نجح في اتخاذ قراره التاريخي بتأسيس الرابطة الإسلامية الإريترية، وأُعلن ذلك رسميًا يوم الأربعاء 9 محرم 1366 هجرية الموافق 3 ديسمبر 1946. وقبل انتهاء المؤتمر، وقعت جميع وفود المديريات على صحيفة الاتفاق التي قُرئت على جمهور الحاضرين. وأصبح للرابطة فروع ومجالس في كل مدن إريتريا، وبذلك أصبحت الرابطة الإسلامية الإريترية أول حزب أنشأه الشعب في القطر الإريتري، والحزب الوحيد الذي احتل خريطة إريتريا من حدود السودان إلى حدود جيبوتي والحبشة. وقد ابتهج الناس ابتهاجًا كبيرًا لتأسيس الرابطة، وسرت موجة من الأمل والثقة في نفوس الناس حول مستقبل البلاد ومصيرها. وتغنى الشعراء بالقصائد الكثيرة معبرين عن فرحتهم وابتهاجهم بهذا المولود الجديد، وفيما يلي بعض المقتطفات من قصيدة الأستاذ عبد الحميد إدريس المدرس بمدرسة صنعفى:

أطل علينا كوكب سعد بعدمــا        أناخ بنا ليل الظلام وخيمـــــا
تبدد عهد كان بالظلام حالكــا         يموج كموج البحر أو هو أعظمــا
وأقبل فجرا كان طلوعــــه            شعاع يحاكي البدر إذ يتبسمــــا
وأسفر عن مجد نود لقــــائه          وخلف عهدا كدجى من الليل مظلمـا
يشع ضياء الحق فوق سمائــه        يبشر بعهد لذيذ من العيش مكرمــا
أتت ركاب المجد تشفي جراحنا     ويملأ جو الحياة نشيدا وأنغمــــا
يا بلبلا توارى بالأمس عن أعين    غرد أناشيدًا من المجد التليد المفخمـا
…….

وبعد الانتهاء من إنشاء الرابطة وتسجيل المواثيق المتعلقة بها، قرر الحاضرون الدعوة إلى لقاء آخر وتوجيه الدعوة للجميع للنظر في مصير إريتريا. وبناءً عليه، وُجهت الدعوات مرة أخرى، وجاءت الوفود من مناطق مختلفة، وعُقد اللقاء مرة ثانية في مدينة كرن يوم الإثنين 27 صفر 1366 الموافق 21 يناير 1947. وقد شارك في هذا اللقاء نحو 9 آلاف شخص. ولم يتمكن سماحة المفتي من المشاركة في هذا المؤتمر، ولكنه أرسل نيابة عنه فضيلة الشيخ إدريس حسين سليمان، الذي ألقى في المؤتمر كلمة المفتي بالنيابة. وفيما يلي فقرات من هذه الكلمة:

نجتمع اليوم مرة ثانية في هذا البلد الكريم للتشاور في أهم المواضيع في تاريخ بلادنا، ألا وهو مصير أرتريا السياسي. إن جلالة هذا الموقف يفرض علينا ألا ننظر إلى مواضع أقدامنا ويتطلب منا أن نشخص بأبصارنا إلى الآفاق البعيدة، لأن ما نؤسسه في هذا اليوم ستكون ثمراته لأجيالنا القادمة، فإن أحسنا فلنا الذكرى الحسنة عند الله وعند الناس والوطن، ويسجل لنا التاريخ بمداد الذهب صفحة مجيدة لا تمحى مدى الليالي والأيام، وإن أسئنا وفرطنا في شيء من حقوق وطننا فتلك وصمة لا تغتفر، تعود معرتها علينا ومضرتها لأجيالنا القادمة، ويكون تاريخنا أسوأ ما تحدث به التواريخ عن شعوب العالم.
ولا يخفى عليكم أن بعض الحقوق قد يتساهل فيه الإنسان ولو بإسقاط جميع حقوقه، وتلك حقوق الأفراد التي لا تتعدى نتيجتها إلى الغير، ولكن بعض الحقوق لا يمكن أن يتساهل فيها الإنسان مقدار خردلة، ولو وضع على فوهة مدفع، أو ملئت له الدنيا ذهبا.. وتلك هي حقوق الشعب والوطن ومصالح الأمة، وهذا الأخير هو الذي نحن بصدده.
ولعلكم قرأتم ما نشرته الجرائد فيما يتعلق بمصير هذه البلاد، وأهمها ما نشرته الجريدة العربية الأسبوعية في أعدادها الصادرة 19 يوليو 1946م، بأن مجلس وزراء الخارجية قد اتفق على القرار النهائي فيما يتعلق بالمستعمرات الإيطالية على الأسس الآتية:

    1. الاستقلال
    2. الانضمام إلى الدول المجاورة
    3. الوصاية تحت هيئة الأمم المتحدة أو إحدى دولها.

وحين نمعن النظر في هذه النقاط الثلاثة نجد أن الأول وهو الاستقلال، فيه حياة للأمة التي تستشعر في نفسها العزة والكرامة، وتحب لشعبها ولوطنها الحرية والمساواة، ولا يمنعنا عن طلبه مانع لأن ميثاق الأطلنطي قد جعل تقرير مصير الشعوب بيدها.
وأما الثاني وهو الانضمام، فلا يخفى عليكم مضرته لأنه يؤدي إلى تجزئة البلاد، وتشتيت العائلات والقبائل المتحدة بين دول شتى، فيكون بعضها تابع لدولة والبعض الآخر تابعا لدولة أخرى… فتصبح أرتريا بعد ذلك في سجلات التاريخ خبرا بعد عين، ولا أظن أن هذا يرضى به وطني ينبض في ساعده عرق، ويكن لشعبه ووطنه المحبة، لأن ذلك يؤدي إلى انحطاط أبدي، واستعمار سرمدي، وهو موت معنوي لا حياة بعده.
وأما الثالث وهو الوصاية، فإن تبعه الحكم الذاتي ثم الاستقلال بعده طبقا لميثاق الأمم المتحدة فيكون فيه نوع من الحياة لشعبنا، وإلا فهو عين الثاني، موت أبدي  …
أيها المسلمون إن الضرر الذي سيلحق الوطن من وباء التجزئة ماثل أمام أعينكم، ولذا يجب على كل فرد منا أن يقدر أجل تقدير موقفه، ويكون مخلصا في قوله، ومحبا لوطنه وشعبه، مع غض النظر عن الاعتبارات الشخصية والحزازات النفسية. إن اعتبار الوطن هو فوق كل اعتبار، فلتتوحد كلمتنا للوصول إلى حياة سعيدة، ونهاية نبيلة، قبل الوقوع في مسائل التجزئة التي هي عين الممات. وتجنبوا الخلاف والتنازع؛ فإنه إذا فشا التنازع واستحكم الخلاف، تفرقت القلوب، وتمزقت الروابط، وضاعت الفرص السانحة للبلاد، حتى إذا ضعف الجميع جاء الطامع وقبض على ناصية القوة. وعند اتحاد الكلمة تتحد القلوب، وتتصل الروابط ، فيتحقق المطلوب، وتخرج البلاد بعد ذلك عالية، مرفوعة الرأس، موفورة الكرامة، أسوة بالبلاد المجاورة لها إن شاء الله تعالى، ” وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ “[1]، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

وفي هذا اللقاء، تم اختيار السيد محمد أبوبكر الميرغني رئيساً للرابطة الإسلامية، والشيخ إبراهيم سلطان علي سكرتيراً لها. وأصدر المؤتمر قراراً يحتوي على 8 بنود، ومن حينها تم إبلاغه إلى الجهات الرسمية وإلى دول الأمم المتحدة. وقد خرجت إثر هذا المؤتمر مظاهرات جماهيرية ضخمة للتعبير عن فرحتها بتأسيس الرابطة ومساندة قراراتها. فقد خرجت في كرن مظاهرة شارك فيها 8 آلاف شخص، وفي أغردات 3 آلاف شخص، وفي عدي وقري 2500 شخص، وفي عدي قيح 6 آلاف شخص، وغيرها من المدن.

وفي يوم 27 ربيع الأول 1366 الموافق 18 فبراير 1947، أُنشئ في مدينة عدي قيح حزب ثالث سُمّي: حزب الأحرار والتقدم. وقد شارك في حفل إنشائه عدد كبير من زعماء الرابطة الإسلامية من سائر المدن، وأعلن الحزب دعوته للمطالبة باستقلال إرتريا، وعُين رئيساً له “راس تسما أسبروم”. وفي اجتماع لاحق بين زعماء الحزبين، تم الاتفاق على اتخاذ راية موحدة مكونة من قطعة خضراء رمزاً لراية الرابطة، وقطعة حمراء رمزاً لراية حزب الأحرار، مع وضع ميزان بينهما رمزاً للمساواة.

وفي يوم الثلاثاء 4 ربيع الثاني 1366 الموافق 25 فبراير 1947، صدر العدد الأول من جريدة صوت الرابطة الإريترية، وهي أول صحيفة عربية حزبية، وصار صاحبها بشير عثمان بشير، ومحررها ياسين محمد سالم باطوق ومحمد عثمان الحيوتي.


[1] سورة التوبة، آية 105.

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *