مقالات: في ذكرى النجاشي
اهتم سماحة المفتي في كتاباته التاريخية بسيرة النجاشي (ملك الحبشة) وببيان جهوده وأسبقيته في خدمة الإسلام. وقد خصص سماحته كتابا كاملا عن سيرة النجاشي سماه: إزالة الغواشي عن أخبار النجاشي (لا يزال مخطوطا). وهذا مقال نشر في الصحف المحلية لتعريف القراء ببعض جوانب شخصية النجاشي والإشارة إلى ما ذكرته كتب التاريخ عنه.
جريدة الوحدة
السبت 7 محرم 1385هجرية، الموافق 8 مايو 1965م
مناقب النجاشي
هو أول مسلم في الديار الحبشية، وهو أول من سطعت على قلبه أنوار الديانة المحمدية، وأتحفته العناية الإلهية بالأسبقية، ألا وهو التابعي المخضرم، والملك المعظم، أصحمة بن أبحر، نجاشي الحبشة. وهو أول ملك أرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب يدعوه فيه إلى الإسلام فأسلم، وأول من صلى على جنازته النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صلاة الغائب. واختلف الكاتبون في اسم النجاشي لما جاء في صحيح البخاري ومسلم، كما اختلفوا في اسم أبيه هل هو أبجر بالجيم المعجمة أو بالحاء المهملة.
قبيلة النجاشي ودار مملكته
وذكر المحقق ابن خلدون في كتابه العبر بأن النجاشي من أمة الدمادم، التي هي أعظم أمم السودان الواقعة مساكنها على الشاطئ الغربي بالبحر الأحمر في مقابلة بلاد اليمن التي كانت دار مملكتها تسمى ( كفرة).[1]
اتصال النجاشي مع العرب قبل الإسلام
والذي يؤخذ مما كتبه شيخ المؤرخين محمد بن إسحاق المطلبي[2] المتوفي عام 151هجرية، وعبد الملك بن هشام المعافري المتوفي عام 213 هجرية في كتابه السيرة النبوية[3]، والإمام السهيلي المتوفي عام 581 هجرية في كتابه روض الأنف[4]، أن النجاشي قبل أن يكون ملكا كان قد أبعد من بلاده إلى بلاد العرب لأمور سياسية تتعلق بالملك، وكان ساكنا مع رجل من بني ضمرة بين مكة والمدينة، فمكث هناك مدة من الزمن إلى أن مات عمه الذي كان ملكا للحبشة بعد أبيه فدعي بعد ذلك هناك ليخلفه في السلطنة وفعلا حضر وتولاها.
النجاشي كان أعلم النصارى
وذكر الشيخ أحمد زين دحلان في كتابه السيرة النبوية، أن النجاشي كان أعلم النصارى في وقته بما أنزل على عيسى، حتى أن قيصر الروم كان يرسل إليه علماء النصارى ليأخذوا منه العلم[5] … ويدل على هذا ما أخرجه عبد الحميد والحاكم وصححه البيهقي في الدلائل عن أبى موسى أن النجاشي قال لجعفر ما يقول صاحبك في ابن مريم؟ “قال: يقول فيه هو روح الله وكلمته أخرجه من العذراء البتول التي لم يقربها بشر، فتناول النجاشي عودا من الأرض، فقال: يا معشر القسيسين والرهبان: ما يزيد هؤلاء على ما تقولون في ابن مريم ما تزن هذه.”[6]
كتاب النبي إلى النجاشي
وفي سنة 6 من الهجرة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى نجاشي الحبشة بكتاب يدعوه فيه إلى الإسلام وهذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة.
أسلم أنت فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول، فحملت به فخلقه من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني وتؤمن بالذي جائني فإني رسول الله، وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت فاقبلوا نصيحتي، والسلام على من اتبع الهدى.
كتاب النجاشي إلى النبي
وردا على الكتاب المتقدم ذكره كتب النجاشي أصحمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما يأتي نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى محمد رسول الله من أصحمة النجاشي، سلام عليك يا نبي الله ورحمته وبركاته، الذي لا إله إلا هو.
أما بعد:
فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء والأرض إن عيسى لا يزيد على ما ذكرت تفروقا وأنه كما ذكرت، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، وقد قربنا ابن عمك وأصحابه، وأشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين.
(نقلا من كتاب نصب الراية لأحاديث الهداية[7] لجمال الدين عبد الله بن يوسف الزيلعي، وابن طولون الدمشقي في كتابه إعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين[8])
………….
الهدايا بين الرسول والنجاشي
وقد دارت بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم عدة أمور ودية من الرسائل والكتب والهدايا.
- إهداؤه للنبي خفين وحلة:
ومن هداياه للرسول صلى الله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم خفين ساذجين[9]، لبسهما الرسول ثم توضأ وصلى فيهما. ومنها أنه أهدى له حلة، لما أخرجه أبو داود وابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قدمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حلة من عند النجاشي أهداها له، فيها خاتم من ذهب فيه فص حبشي فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود معرضا عنه ثم دعا أمامة بنت أبي العاص فقال: لها تحلى بهذا يابنية.
- إهداؤه له قارورة طيب:
ومنها أنه أهدى له قارورة من غالية، وهي نوع من الطيب مركب من مسك وعنبر وعود ودهن، كما أخرجه ابن عدي في كتابه الكامل بسند ضعيف عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قال: إن أول من عمل الغالية النجاشي.[10]
- إهداؤه للنبي ثلاث عنزات:
ومنها أنه أهدى له صلى الله عليه وسلم ثلاث عنزات، فأمسك واحدة لنفسه وأعطى الثانية لعلي بن أبي طالب، والثالثة لعمر بن الخطاب، فكان بلال بن أبي رباح رضي الله عنه يمشى بتلك العنزة التي أمسكها الرسول لنفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في العيد حتى يأتي المصلى فيركزها بين يديه فيصلي إليها النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العيد، ثم كان يمشي بها بين يدي أبي بكر بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم كان سعد القرظي يمشي بها في العيدين بين يدي عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان….[11]
وكالة النجاشي عن النبي في عقد النكاح
وقد وكل الرسول صلى الله عليه وسلم النجاشي لينوب عنه في قبول النكاح على أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان في مهجرها في بلاد النجاشي بعد أن هلك عنها زوجها الأول المتنصر عبيد الله بن جحش، وقد تم ذلك فعلا، فتولى النجاشي العقد من جانب الرسول صلى الله عليه وسلم، ومهرها من عنده بمبلغ أربعمائة دينار، كما تولى من جانب أم حبيبة خالد بن سعيد بن العاص فزوجها وقبض لها مهرا، ثم أقام النجاشي وليمة الزواج، وبعد ذلك جهزها من عنده ومعها هدية جامعة من قميص وسروال وطيلسان وخفين، وأرسلها مع شرحبيل بن حسنة إلى المدينة، وذلك كله في عام 7 من الهجرة.[12]
كتاب الرسول إلى النجاشي لرد الصحابة
وذكر العلامة محمد بن سعد الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليه مع عمرو بن أمية بكتابين يدعوه في أحدهما إلى الإسلام، وفي الثاني أن يزوجه أم حبيبة، وأن يبعث من عنده من الصحابة ويحملهم، فأسلم وفعل ما أمر به وجاء بحق عاج فجعل فيه الكتابين وقال: لا تزال الحبشة بخير ما كان هذان الكتابان بأظهرها.[13]
كتاب النجاشي إلى النبي لإرجاع الصحابة
وفي سنة 7 من الهجرة قد كتب النجاشي كتابا أيضا بصحبة ابنه أريحة جوابا لكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المرسل إليه صحبة عمرو بن أمية الضمري أن يرسل من عنده من مهاجري الصحابة رضي الله عنهم، فأرسلهم مع ستين رجلا من الحبشة وهذه صورته:
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى محمد صلى الله عليه وسلم من النجاشي أصحمة
سلام عليك يا رسول الله من الله ورحمة الله وبركاته، لا إله إلا الله الذي هداني إلى الإسلام
أما بعد:
فقد أرسلت إليك يا رسول الله من كان عندي من أصحابك المهاجرين من مكة إلى بلادي وها أنا قد أرسلت إليك إبني أريحة في ستين رجلا من أهل الحبشة وإن شئت أن آتيك بنفسي فعلت يا رسول الله، فإني أشهد أن ما تقوله حق.
والسلام عليك يا رسول الله ورحمته وبركاته[14]
أولاد النجاشي
وأما أولاده فقد ذكر المؤرخون منهم ثلاثة أولاد:
الأول: أبو نيزر، ويظهر من كلام البستاني اللبناني في دائرة المعارف، أنه ولد له وهو في بلاد العرب وأنه لما هاجر المسلمون إلى أبيه قد رغب في الإسلام وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وأقام معه في بيته فلما قبض الرسول صلى الله عليه وسلم صار مع فاطمة وولديها. ويقول البستاني أيضا لما مات النجاشي اضطرب أمر الحبشة فأرسلوا إليه يطلبون حضوره ليكون ملكا في مقام أبيه فأبى وقال: ما كنت لأطلب الملك بعد أن من الله علىّ بالإسلام. وكان ناظرا على وقف سيدنا علي بن ابي طالب الموقوف على فقراء المدينة وابن السبيل.
الثاني: أريحة بن أصحمة، أرسله والده سنة 8 من الهجرة بكتاب من عنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ستين رجلا من الحبشة فركب السفينة وسارت بهم حتى إذا توسطت البحر هاجت الريح عليها فأغرقتها مع من فيها كما تقدم قريبا.[15]
……………….
والثالث: عبد الله، قيل أنه ولد في أيام وجود الصحابة بأرض الحبشة. وروي أنه لما ولد عبد الله أرسل النجاشي إلي جعفر بن أبى طالب، وكان قد رزق في ذلك الحين بمولود، يقول له ما سميت ابنك يا جعفر، قال سميته عبد الله، وسماه النجاشي عند ذلك عبد الله اقتداء به، وأن السيدة أسماء بنت عميس زوجة جعفر كانت ترضعه مع ابنها عبد الله بن جعفر وأنهما كانا يتواصلان بعد ذلك بسبب تلك الأخوة … كما يؤخذ من كلام صاحب الطراز المنقوش بمحاسن الحبوش.[16]
هجرة الصحابة إلى النجاشي
وفي شهر رجب من السنة الخامسة من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم …. الموافق سنة 614 م قد هاجر إليه جماعة من الصحابة برئاسة صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفته الثالث فيما، بعد عثمان بن عفان. وكان هذا الفوج بمثابة أول بعثة إسلامية سياسية أرسلها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي لتتعرف مدى استعداده لقبول المهاجرين المسلمين إلى بلاده، ومبلغ حمايته إياهم، ولم يكن كل القصد من سفر أفراد هذه البعثة الفرار من المشركين وأذاهم، كما يدل على ذلك قلة عددهم وقصر المدة التي أقاموها في بلاد النجاشي وكثرة من هاجر من المسلمين إلى الحبشة بعد ذلك .
عدد المهاجرين إلى الحبشة
والهجرة إلى مملكته كانت على فوجين:
الفوج الأول: يتكون من عشرة رجال وخمس نسوة، منهم عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم عادت هذه البعثة بعد أشهر قليلة إلى مكة .
الفوج الثاني: قام بقيادة .. ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفر الطيار، وعدد الذكور منهم 94 والإناث 6. كما هاجر إليها من اليمن 53 رجلا برئاسة أبي موسى الأشعري وهذا ما عدا الأطفال… فيكون جملة المهاجرين إلى الحبشة 182.
محاولة قريش رد المهاجرين
وقد ذكر أبو فرج الأصفهاني في كتابه الأغاني، أن عمارة بن الوليد المخزومي وعمرو بن العاص بن وائل السهمي كانا كلاهما تاجرين إلى النجاشي، وكانت أرض الحبشة لقريش متجرا ووجها. [17] ولهذا السبب اختارتهما قريش للذهاب مندوبين عنها إلى النجاشي مع الهدايا الكثيرة له ولمن حوله من رجال الدين والدولة لرد المهاجرين إليهم، وقالت لهما إذا وصلتما أرض الحبشة فادفعا لكل قس من قسس النجاشي هديته قبل أن تكلما النجاشي في شأن المهاجرين عنده، وقولا لهم إن قوما أشقياء من بني عمنا اتبعوا رجلا مجنونا ظهر فيما بيننا بدين مخالف لما كان عليه أباؤنا ولما أنتم عليه، وقد ضيقنا عليهم كل التضييق فلما لم يجدوا مفرا من أيدينا ذهبت طائفة منهم إلى بلادكم ليفسدوا عليكم دينكم بذلك، ونرجوكم إذا نحن كلمنا النجاشي فيهم أن تساعدونا على أخذهم قبل أن يكلمهم، فإذا أجابوا لذلك فقدما للنجاشي هدية واطلبا منه أن يسلمهم لكما.[18]
رفض النجاشي رد المهاجرين
فلما حضر الرسولان إلى أرض الحبشة قدما ما معهما للنجاشي من الهدايا وطلبا تسليم المهاجرين إليهما، وبعد مداولات عديدة عملوها للتوصل إلى مقصودهم رفض النجاشي هدية قريش، وقال هذه رشوة ولا حاجة لي بها كما رفض طلبهما، وقال لهما والله لا أسلمهم إليهما حيث أنهم قد جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على سواي.[19]
ارتياح الصحابة في مهجرهم
ارتاح الصحابة في أأمن دار، مع خير جار بسط لهم جناح الإكرام والترحيب، فآواهم وأحسن وفادتهم لاجتماع بواعث ذلك في شخصية النجاشي، إذ من المعلوم بالضرورة أن إحسان الإنسان إلى الغير مصدره بواعث شتى، تارة معرفة كانت بين المحسن والمحسن إليه عموما أو خصوصا، وتارة بباعث المودة الإنسانية وحب الخير، وتلك الصفات كلها كانت متوافرة في هذا الرجل العظيم الذي سجل لنفسه ولأمته فخرا مجيدا…
محبة المهاجرين للنجاشي
ولتلك الأيادي البيضاء عليهم، كان المهاجرون يحبون النجاشي … يرون نصره نصرا لهم وحزنه حزنا لهم، وأم سلمة التي كانت إحدى المهاجرات قد روت عن حرب حصلت على ساحل البحر ضد النجاشي، حيث قالت: ثم إننا ما نشعر بعد أيام من نزولنا إلا وملك من ملوك الحبشة جاء لقتال النجاشي، فلما علمنا حَزنا حُزناً شديدا، خوفا من أن ينتصر على النجاشي فلا يعرف من حقنا ما كان يعرفه النجاشي لنا فدعونا الله تعالى للنجاشي بالنصر على عدوه والتمكين له في بلاده، فوالله إنا لعلى هذا الحال حتى طلع علينا الزبير وهو يقول: أبشروا فقد أظفر الله النجاشي وأهلك عدوه ومكنه في أرضه فوالله ما علمت فرحا فرحناه قط أكبر من فرحنا عند ذلك..[20]
رجوع المهاجرين إلى أوطانهم
ومكث الصحابة في أرض النجاشي مدة طويلة، ثم رجع أكثرهم إلى موطنهم بمكة والمدينة في السنة السابعة من الهجرة وعلى رأسهم جعفر بن أبى طالب، وحين قدومهم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في فتح خيبر مع اليهود، واجتمع له فرحان: الفتح والقدوم، فعانق الرسول صلى الله عليه وسلم جعفر وقبله ما بين عينيه وقال: “ما أدري بأيهما أنا أفرح، بقدوم جعفر أو بفتح خيبر”[21]، وذلك لطول الغيبة بينهما بما يقارب 15 عاما.
هجرة الصحابة من طريق جدة وباضع
والمؤكد أن هجرة الصحابة كانت من جدة إلى باضع أي (مصوع). لما أخرجه محدث الشام الحافظ ابن عساكر المتوفي عام 571هجرية، ونقل عنه الحافظ السيوطي في جمع الجوامع[22]، وعنه نقل حسام الدين الهندي في كنز العمال[23]، عن أسماء بنت أبي بكر قالت: كنت أحمل الطعام إلى رسول الله ﷺ وأبي وهما في الغار. قلت: فجاء عثمان إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، إني أسمع من المشركين من الأذى فيك ما لا صبر لي عليه، فوجهني وجها أتوجهه، فلأهجرنهم في ذات الله: فقال له النبي ﷺ: أزمعت بذاك يا عثمان؟ قال: نعم. قال: فليكن وجهك إلى هذا الرجل بالحبشة، يعني النجاشي، فإنه ذو وفاء، واحمل معك رقية فلا تخلفها، ومن رأى معك من المسلمين مثل رأيك، فليتوجهوا هناك وليحملوا معهم نساءهم، ولا يخلفوهم. قال: فودع عثمان نبي الله ﷺ وقبل يديه. قال: فبلغ عثمان المسلمين رسالة رسول الله ﷺ، وقال: إني خارج من تحت ليلتي، فمقيم لكم بجدة ليلة أو ليلتين، فإن أبطأتم، فوجهي إلى باضع، جزيرة في البحر. قالت: فحملت إلى رسول الله ﷺ، فقال: لي ما فعل عثمان ورقية؟ قلت: قد سارا فذهبا. قالت: فقال: قد سارا فذهبا. قلت: نعم، فالتفت إلى أبي بكر فقال: زعمت أسماء أن عثمان ورقية قد سارا فذهبا، والذي نفسي بيده، إنه لأول من هاجر بعد إبراهيم ولوط.”[24]
نزول القران في حقه
ونزل في حقه كما ذكر المفسرون قوله تعالى (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۗ أُولَٰئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ.”[25]
وفاة النجاشي وصلاة النبي عليه غائبا
وهكذا لبث النجاشي حصنا حصينا وملجأ أمينا للإسلام والمسلمين إلى أن لبى نداء مولاه في شهر رجب سنة تسع من الهجرة الموافق 630م، وعلم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوحي الإلهي وقال لأصحابه كما رواه الشيخان البخاري ومسلم، توفي اليوم رجل صالح في الحبشة فصلوا عليه الجنازة فخرجوا إلى مصلى العيد الواقع بين سوري المدينة المنورة المعروفة بين أهلها بالمناخة، فصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم خلفه فصلى عليه، وكبر أربع تكبيرات واستغفر له….
……….
حفظ المسلمين أيادي النجاشي
ولما كان نجاشي الحبشة من أبطال هذه المآثر السامية فقد حفظ له التاريخ أجل مناقب لا يمحوها مرور السنين … وما زال مسلموا العالم عموما ومسلموا الحبشة خصوصا يذكرون مآثره ويحتفظون بذكراه من تلك العصور السحيقة إلى هذا اليوم.. تقديرا لخدماته المشكورة وحفظا لمآثره المبرورة، إذ الاحتفال بالعظماء ليس لذاته فقط بل لأعمالهم الخيرية وخدماتهم الإنسانية حتى ينهج الباقون نهجهم القويم…..
[1] ابن خلدون، [العِبَر و] ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، تحقيق: د. سهيل زكار، دار الفكر – بيروت -، الطبعة الأولى، ج 6، ص 265. يقول محقق الكتاب في (كفرة): “وفي نسخة أخرى: كعبر”، هامش 2، نفس الصفحة. وهذا نص ما ورد في كتاب العبر لابن خلدون في نسخة دار الفكر: “ويليهم بربرا، وهم الذين ذكرهم امرؤ القيس في شعره. والإسلام لهذا العهد فاش فيهم، ولهم يومئذ مقاشن على البحر الهندي يعمرها تجار المسلمين ومن غربيهم وحولهم الدمادم وهم حفاة عراة. قال: وخرجوا إلى بلاد الحبشة والنوبة عند خروج التتر إلى العراق، فعاثوا فيها ثم رجعوا. قال: ويليهم الحبشة وهم أعظم أمم السودان وهم مجاورون لليمن على شاطئ البحر الغربي ومنه غزو ملك اليمن ذي نواس وكانت دار مملكتهم كفرة، وكانوا على دين النصرانية، وأخذ بالإسلام واحد منهم زمن الهجرة على ما ثبت في الصحيح، والذي أسلم منهم لعهد النبي صلى الله عليه وسلم. وهاجر إليه الصحابة قبل الهجرة إلى المدينة فآواهم ومنعهم، وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم عند ما نعي إليه، كان اسمه النجاشي.”
[2] ابن إسحاق، السيرة النبوية، تحقيق: سهيل زكار، دار الفكر، الطبعة الأولى، ص 216-217.
[3] ابن هشام، السيرة النبوية، تحقيق: السقا والابياري وشلبي، مطبعة البابي الحلبي، 1936، ج 1، ص 363-364.
[4] السهيلي، روض الأنف في شرح السيرة النبوية، السلامي، دار إحياء التراث العربي، – بيروت -، الطبعة الأولى، ج 3، ص 155-156.
[5] أحمد زين دحلان، السيرة النبوية، دار القلم العربي، الطبعة الأولى، ج 1، ص 251.
[6] البيهقي، دلائل النبوة، تحقيق: قلعجي، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، ج 2، ص 300.
[7] جمال الدين الزيلعي، نصب الراية لأحاديث الهداية مع حاشيته بغية الألمعي في تخريج الزيلعي، تحقيق: محمد عوامة، مؤسسة الريان للطباعة والنشر – بيروت، الطبعة الأولى، ج 4، ص 421.
[8] ابن طولون الدمشقي، إعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين، تحقيق: الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة – بيروت -، الطبعة الثانية، ص 54-56. ملحوظة: صيغة ابن طولون فيها اختلاف يسير وزيادة في رسالة النجاشي، ونصها: “وبعثت إليك بابني أرها ابن الأصحم فإني لا أملك إلا نفسي، وإن شئت أن آتيك يا رسول الله فعلت، فإني أشهد أن ما تقوله حق، والسلام عليك يا رسول الله.”
[9] ابن ماجه، باب الخفاف السود، رقم 3620.
[10] ابن عدي الجرجاني، الكامل في ضعفاء الرجال، تحقيق: عادل الموجود و علي معوض، الكتب العلمية – بيروت -، الطبعة الأولى، ج 7، ص 250.
[11] ابن سعد الزهري، الطبقات الكبير، تحقيق: د علي محمد عمر، مكتبة الخانجي – القاهرة -، الطبعة الأولى، ج 3، ص 217.
[12] المصدر السابق، ج 10، ص 94-97.
[13] المصدر السابق، ج 1، ص 223.
[14] أحمد الحفني القنائي، الجواهر الحسان في تاريخ الحبشان، المطبعة الكبرى الأميرية، 1321هـ، ص 163.
[15] المصدر السابق.
[16] وذكر ذلك أيضا السهيلي في كتابه: روض الأنف، ج 7، ص 139.
[17] الأصفهاني، كتاب الأغاني، تحقيق: إحسان عباس وإبراهيم السعافين وبكر عباس، دار صادر، الطبعة الثالثة، ج 9، ص 43.
[18] ابن إسحاق، ص 214-216.
[19] المصدر السابق، ص 214-216.
[20] المصدر السابق، ص 214-216..
[21] ابن سعد، ج 4، ص 32.
[22] السيوطي، جامع الحديث، حديث رقم 42874.
[23] المتقي الهندي، كنز العمال، حديث رقم 46316.
[24] ابن عساكر، تاريخ دمشق، تحقيق محب الدين العمروي، دار الفكر، 1995م، ج 39، ص 31. في الحديث ملاحظتان: الأولى: قول عثمان بن عفان بأنه سيتوجه من جدة إلى باضع، وهذا يخالف ما ذكره الطبري وغيره بأنهم غادروا من الشعيبة. ويمكن التوفيق بينهما باحتمال أنهم خرجوا من جدة إلى الشعيبة ثم اتجهوا إلى باضع. والثانية: ما ورد في الحديث بأن لقاء عثمان بالنبي وأبي بكر كان في غار حراء، وقد يفهم من هذا أن ذلك كان أثناء هجرة النبي إلى المدينة، ولكن لا بد أنه لقاء آخر في نفس الغار. وقد ورد هذا الحديث بروايات أخرى دون ذكر باضع. محرر الموقع.
[25] سورة آل عمران، آية 199.
اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!