مقالات: حديث الوتر في صلاة التراويح

كان الخلاف يحتدم دائما بين أتباع المذاهب المختلفة في المسائل الفقهية الفرعية، وتقام أكثر من صلاة جماعة في آن واحد. ومن هذه المسائل مسألة صلاة الوتر في رمضان حيث كان الشافعية يصلون جماعة خلف إمام شافعي في جانب من المسجد، والأحناف خلف إمام حنفي في جانب آخر من نفس الجامع . وقد بذل سماحته جهدا كبيرا لتوعية الناس والقضاء على التعصبات المذهبية، فكتب ضمن ما كتب هذا المقال لبيان الأحكام الفقهية وحث الناس على الإتحاد ونبذ الفرقة والنزاع.

جريدة الزمان

الجمعة 17 فبراير 1961م

أخرج الحاكم النيسابوري في مستدركه وصححه ابن ماجة والنسائي ومسلم وأبو داود واللفظ للاخير عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الوتر حق واجب على كل مسلم فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل). والوتر صلاة شرعت وزيدت لبعض الفرائض لما أخرجه أبو داود فى سننه عن أبي الوليد العدوي قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن الله عز وجل قد أمدكم بصلاة وهي خير لكم من حمر النعم وهي الوتر، فجعلها لكم فيما بين العشاء إلى طلوع الفجر. فحديث أبي أيوب الانصاري المتقدم آنفا أفاد التخيير في صلاة الوتر بين خمس ركعات وثلاث وواحدة.

اختلاف العلماء في الوتر

واختلف العلماء في موضوعين من الوتر: الأول في حكمه والثاني في وصله وفصله.

أما في الأول فذهب أبو حنيفة إلى وجوبه، والواجب عنده أدنى من الفرض وأعلى من السنة واحتج له بحديث أبي أيوب الانصاري المتقدم وبحديث أبي داود بن عبدالله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا. ومال إلى وجوبه سحنون وأضبع من المالكية وحكى ابن بطال في شرحه على البخاري عن ابن مسعود وحذيفة والنخعي أنه واجب على أهل القرآن دون غيرهم. وذهب الآخرون إلى سنيته، ومن أدلتهم ما أخرجه النسائي في سننه عن عاصم بن ضمرة عن علي رضى الله عنه قال: الوتر ليس بحتم كالهيئة المكتوبة ولكنه سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما في الثاني فقد اتفق العلماء على جواز الوتر ثلاث ركعات لحديث النسائي عن أبى مرة إبن كعب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الوتر(سبح اسم ربك الأعلى)، وفي الركعة الثانية يقرأ (قل ياأيها الكافرون)، وفي الثالثة يقرأ (قل هو الله أحد)، ولا يسلم إلا في آخرهن ويقول بعد السلام سبحان الملك القدوس؛ ولحديث الإمام أحمد والنسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث لا يفصل بينهن. إلى غير ذلك من الأحاديث العديدة.

اختلاف العلماء في فصل الوتر

واختلفوا في جوازه بتسليمتين فذهب الجمهور إلى جواز ذلك، كجواز الثلاثة بتسليمة واحدة لحديث الشيخين وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة ويوتر منها بواحدة. وفي حديث أخرجه الإمام أحمد ومسلم عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم: الوتر ركعة في أخر الليل. وذهب أبو حنيفة والإمام يحي الهادي بن الحسين الزاهد أحد أئمة الإجتهاد في اليمن على عدم جواز فصل الوتر بل شرط في صحته أن تكون الثلاثة بتسليمة واحدة واحتج لهم بوجهين:

الأول: أن الصحابة أجمعوا على أن الإيتار بثلاث جائز واختلفوا فيما عداه فالأخذ به أخذ بالاجماع.

الثاني: حديث أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن البتيراء، أن يصلي الرجل ركعة واحدة يوتر بها. ورد هذا بما جاء عن عبدالله بن عمر حيث قال البتيراء أن يصلي الرجل الركعة يتم لها ركوعها وسجودها وقيامها ثم يقوم في الاخرى ولا يتم لها ركوعا ولا سجودا ولا قياما.

والقائلون بجواز الفصل والوصل اختلفوا في الأفضل منها فذهب الأكثرون إلى أن الفصل أفضل من الوصل بزعم كثرة الأحاديث الصحيحة فيه ولكثرة العبادات فيه لتجدد النية ودعاء التوجه والدعاء في أخر الصلاة والسلام وغير ذلك. وبعض الشافعية فرق بين الإمام والمنفرد فقال في حق المنفرد الفصل أفضل، وفي حق الإمام الوصل أفضل للخروج من خلاف أبي حنيفة كما ذكره النووي في المجموع.

فتأدية صلاة الوتر تارة موصلا وتارة مفصولا كله ثابت في الأحاديث الصحيحة، حيث ثبت كلا الوجهين من فعله صلى الله عليه وسلم مع كون صورة الوصل للإمام أفضل لكونه متفق عليه.

ينبغى إبطال التفرقة في جماعة وتر رمضان

ولكن الذي ينبغى إبطاله بتاتا هو التفرقة المعتادة في قطرنا في جماعة وتر رمضان، فحين إنتهاء صلاة التراويح بعد أن كان المسلمون مجتمعون على إمام واحد صفوفا متساوية المناكب يفترقون على إمامين لصلاة الوتر في مكان متقارب، فطائفة تذهب إلى جهة اليمين لتقتدى بالإمام الواصل والآخرى تذهب إلى جهة الشمال مثلا لتقتدي بالإمام الفاصل، ثم تشوش إحداهما على الاخرى بالتكبيرات والقراءة والتحميدات والتسميعات والتأمين حتى يلتبس الفرق على المقتدين بين إنتقال إمامهم وبين إنتقالات إمام الآخرين، فقد يركع بعضهم خطأ بركوع غير إمامهم بسبب ذلك، علاوة على ما يترتب على ذلك من التعصبات المذهبية العامية التي تعود عند إشتدادها بمضرة على الحالة الاجتماعية للمسلمين.

وإقامة جماعتين في وقت واحد في صلاة واحدة في مكان واحد أمر محظور أقل درجته الكراهة، وأعلاه الحرمة، وهو مخالف لما كان عليه السلف الصالح والرعيل الأول من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين فإنهم كانوا يصلون خلف بعضهم مع إختلافهم في الفروع، والرسول صلى الله عليه وسلم سمع صلاتين تقام في آن واحد فخرج إليهم فقال أصلاتان معا؟ (كما أخرجه مالك في موطأه) وكان ذلك إستنكارا وتوبيخا لعملهم حيث أن ذلك الفعل مخالف لهدي الإسلام.

صلاة الصحابة خلف بعضهم

وقد كان الصحابة وهم خير الأمة بشهادة الرسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون بعضهم خلف بعض، وكذلك التابعون ومن بعدهم، وفيهم المجتهدون مع وجود الخلافات الكثيرة بينهم في مسائل الفروع، ولم ينقل عن أحد من السلف أنه كان لا يرى الإقتداء بمن يخالف قوله في بعض المسائل مع إشتهار الفارق المذكور فيما بينهم، إذ كان منهم من لا يرى القراءة خلف الإمام ومنهم من يرى ذلك، ومنهم من يرى وصل الوتر ومنهم من يرى فصله، ومنهم من يقرأ البسملة ومنهم من لا يقرؤها، ومنهم من يجهر بها ومنهم من لا يجهر بها، ومنهم من يقنت في الفجر ومنهم من لا يقنت، ومنهم من يتوضأ من مس الذكر والنساء بشهوة ومنهم من لا يتوضأ من ذلك، ومنهم من يتوضأ مما مسته النار ومنهم من لا يتوضأ من ذلك، ومنهم من يتوضأ من أكل لحم الإبل ومنهم من لا يتوضأ من ذلك ومنهم من لا يرى ذلك، إلى غير هذا مما يطول سرده .

إقتداء الحنفية بالامام الشافعي وعكسه جائز

قال الدهلوى في رسالته عقد الجيد في الإجتهاد والتقليد: من لم يجز أن يقتدي الحنفي على أمام شافعي مثلا فإن هذا قد خالف إجماع القرون الاولى وناقض الصحابة والتابعين، لأن الناس لم يزالوا من زمن الصحابة رضي الله عنهم إلى أن ظهرت المذاهب الاربعة يقلدون من اتفق من العلماء من غير نكير من أحد.

بدء ظهور أئمة المذاهب

فنجد مما تقدم واضحا جليا إذا رجعنا إلى بحث صلاة المسلمين في الجماعات قبل ظهور المذاهب الأربعة، أنه قد مضى قبل ذلك حوالي 80 عاما بدون أي ذكر لها، وبعد ذلك ظهر إلى حيز الوجود أئمة المذاهب الأربعة الموجودة بيننا في مدة متقاربة في خلال 84 عاما تقريبا. فولد أبو حنيفة في عام 80 من الهجرة ومات سنة 15، وولد الإمام مالك في عام 90 ومات في عام 17، وولد الشافعى في عام 150.. ومات في عام 204، وولد الإمام أحمد في عام 146 ومات في عام 241. ثم لم يظهر التقليد الخصوصي إلا بعد مضي مئتى عام من الهجرة النبوية كما قاله العلامة سندو المالكي في شرحه على مدونة سحنون، وولي الله الدهلوى في رسالته الإنصاف في بيان سبب الإختلاف.

إحترام أئمة المذاهب آراء مخالفيهم

ثم ظهر التقليد الخصوصي، ولكن أئمة المذاهب مع إختلافهم في بعض مسائل الفروع كانوا يحترمون آراء مخالفيهم، ولم ينقل عن أحد منهم منع الإقتداء بمن يخالف مذهبه، بل ظل الأمر على العكس، فإنهم كانوا كأسرة واحدة يتآزرون في خدمة شرع الله، يستفيد هذا بما عند ذاك وذاك بماعند هذا ويثني بعضهم على بعض وقد يعمل مجتهد بمذهب مجتهد آخر. وقد ترك الإمام الشافعي رضي الله عنه القنوت في صلاة الصبح في بغداد عند قبر أبي حنيفة، ولما قيل له لم فعلت ذلك؟ قال: تأدبا مع صاحب هذا القبر، وقيل أنه لم يجهر بالبسملة….

وقد صلى هارون الرشيد إماما وقد احتجم بعد الوضوء وكان قد أفتاه الإمام مالك بأن لا وضوء عليه فصلى الإمام أبي يوسف خلفه ولم يعد الصلاة، مع أنها لا تصح على مذهب إمامه. وأيضا قد أخبر أبي يوسف المذكور بعض الصلاة نجاسة الماء الذى توضأ منه فقال: إذا نأخذ بقول إخواننا أهل المدينة إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث. وكان الإمام أحمد ابن حنبل يرى الوضوء من الرعاف والحجامة فقيل له: إن كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ هل تصلي خلفه؟ قال كيف لا أصلى خلف الإمام مالك وسعيد ابن المسيب، أي لأن مذهبهما عدم إنتقاض الوضوء بخروج الدم المذكور.

 العمل بالدليلين أولى من إهمال أحدهما

وإذا ورد عن الشارع أمران في وقتين فالأوفق العمل بالدليلين. قال الشعراني في الميزان: كان الإمام محمد بن المنذر يقول: إذا ثبت عن الشارع فعل أمرين في وقتين فهما على التخيير ما لم يثبت النسخ فيعمل بهذا مرة وبهذا الأمر مرة أخرى.

وعن الوليد بن مسلم قال ذكرت لابن عمر ومالك ابن أنس الوتر بواحدة فقالا: إن وصلت وترك بشفعك فلم تسلم بينهما فحسن، وإن فصلت بتسليم فهو أحب الينا. وفي صحيح البخاري عن القاسم ابن محمد أنه قال: ورأينا أناسا منذ أدركنا يوترون بثلاث وإن كل لواسع وأرجو أن لا يكون شئ من بأس.

الصلاة خلف أي مسلم

فإذا علمنا ما تقدم يجب علينا أن نصلي خلف أي إمام مسلم سواء كان حنفيا أو مالكيا أو شافعيا أو حنبليا، وسواء كان في وتر رمضان أو غيره لأن صلاة المسلمين خلف بعضهم مع اختلافهم في الفروع هو ما كان عليه الناس في عصر الرسول وصحابته والتابعين وتابع التابعين. وكذا الأئمة المجتهدين فإنهم مع وجود الخلافات الكثيرة فيما بينهم في المسائل الفرعية لم ينقل عن أحد منهم أنه كان لا يرى الإقتداء بمن يخالف مذهبه في بعض المسائل الفرعية كما قدمنا آنفا. وقد صرح العلماء بأن العامي لا مذهب له بل مذهبه مذهب مفتيه، لأن المذهب إنما يكون لمن يعرف محل ذهاب إمامهم ودليله، وإن عبادة العامي متى صادفت الصحة على مذهب أي مجتهد أجيز ذلك ولا إعادة عليه، وإن التقليد على أي مجتهد في مسألة جائز بعد العمل وقبله، وأن كل من صحت صلاته لنفسه صحت صلاته لغيره.

صلاة المسلمين خلف بعضهم صحيحة بالإجماع

قال ابن قدامة المقدسي في المغني والشرح الكبير: وأما المخالفون في الفروع كأصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي فالصلاة خلفهم غير مكروهة نص عليه أحمد لأن الصحابة والتابعين ومن بعدهم لم يزل يصلي بعضهم خلف بعض مع اختلافهم في الفروع فكان ذلك إجماعا. وقال الشوكانى في نيل الأوطار في باب إمامة الفاسق: كل من صحت صلاته لنفسه صحت لغيره.

وورد مما يؤيد ذلك عدة أحاديث منها حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: صلوا خلف كل بر وفاجر وصلوا على كل بر وفاجر. أخرجه الدارقطني في سننه وفي رواية له ولابن ماجة: صلوا مع كل إمام. وفي رواية أبي داود والبيهقى في سننهما: الصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم برا كان أم فاجرا، وإن عمل الكبائر. وأخرج الدارقطني والخطيب البغدادي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلوا على من قال لا إله إلا الله، وصلوا وراء من قال لا إله إلا الله. وهذه الأحاديث وإن كان في بعضها مقال فيقوي بعضها بعضا، وعلى ذلك كان عصر الرسول والصحابة والتابعين.

كلما يؤدي إلى الإئتلاف يقدم على غيره

وكلما يؤدي إلى إئتلاف المسلمين وتوحيد صفوفهم يقدم على ما يؤدي إلى الإختلاف والمنازعات، لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح حتى ولو كان هناك مفضول يؤدي إلى الائتلاف فإن العمل يكون عليه، ويترك الأفضل لأجل الألفة. قال الحافظ جمال الدين الزيلعي في كتابه في الرواية في مبحث البسملة: “ويسوغ للإنسان أن يترك الأفضل لأجل تأليف القلوب واجتماع الكلمة خوفا من التنفير، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم بناء البيت على قواعد إبراهيم لكون قريش كانوا حديث عهد بالجاهلية وخشي تنفيرهم بذلك ورأى مصلحة الإجتماع على ذلك، ولما أنكر الربيع على ابن مسعود إكماله الصلاة خلف عثمان قال الخلاف شر. وقد نص الإمام أحمد وغيره على ذلك في البسملة وفي وصل الوتر وغير ذلك مما فيه العدول من الأفضل إلى الجائز المفضول مراعاة لائتلاف المأمومين ولتعريفهم السنة وأمثال ذلك وهذا أصل كبير في سد الذرائع”.

والائتلاف وتوحيد الصفوف وإبطال التفرقة بين المسلمين من أجود الأمور المشروعة، ويتأكد طلبه في العبادات الإجتماعية وعلى الأخص في شهر رمضان لأنه موسم سنوي تصوم فيه الجوارح عموما عن مسالك الغرور وتتباعد فيها الأنفس الطاهرة عن محبطات الأجور وتتسابق فيه لطلب الربح في تجارة لن تبور… فلنكن من زبائنها ومروجيها قال جل شأنه (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينا إليك وما وصينا به إبرهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه).

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ثلاثة × أربعة =