حادثة مقتل حكمدار بوليس أرتريا الجنرال تدلا عقبيت

الجنرال “تدلا عقبيت” شخصية تبوأت مركزا كبيرا، ولعبت دورا مهما وخطيرا في التاريخ الأرتري المعاصر، ولازالت الأجيال تتناقل أخباره، وتتحدث عن نهايته المثيرة. وقد قتل الجنرال في ظروف شابتها الغموض، وحسب الرواية الرسمية فإنه قد مات منتحرا، ولكن الشارع الأرتري ظل يتناقل رواية تخالف هذه الرواية وتنفيها. وفيما يلي مقتطفات مما سطره سماحة المفتي عن هذا الحدث في مدوناته.

ترجمة المقتول:

ولد الجنرال “تدلا عقبيت” في حوالى عام 1909م تقريبا، ودخل في الخدمة العسكرية وتدرج فيها إلى عدة رتب، حتى وصل درجة مساعد مدير البوليس، وبعد انتهاء مدة حكمدار بوليس أرتريا البريطاني حل محله، ثم رفضه رئيس حكومة أرتريا، “تدلا بيرو”، وعين مكانه “سيوم كحساى”، من أهالى حماسين. بعد سقوط حكومة “تدلا بيرو” ومجئ حكومة “أسفها ولد ميكائيل” فى أغسطس 1955م، عاد المذكور إلى منصبه رئيسا لبوليس أرتريا. تبسم له الحظ بعد توليه منصب رئاسة بوليس أرتريا، فأحاطه إمبراطور أثيوبيا بإنعامات شتى، من سيارات فخمة، وهبات مالية، وألقاب شرف وغيرها، وأخيرا أتحفه بلقب “البريجدير جنرال” مع وسام نجمة أثيوبيا.

موقف الجنرال من الحكم الذاتي الأرتري:

كان الجنرال “تدلا عقبيت” من أكثر العناصر قوة وتأثيرا في فترة الحكم الذاتي، وكان يمثل مع زميليه “أسفها ولد ميكائيل”،[1] رئيس حكومة أرتريا، والقس “سلام ديمطروس”،[2] نائب رئيس الجمعية الأرترية، القطب الثلاثي العامل لتنفيذ رغبات أثيوبيا في القضاء على الكيان القومي لأرتريا، وتحت توجيههم وعلى مرأى منهم محيت مميزات أرتريا من العلم، والشارة، والختم، ورموز البوليس، وسائر معالمها، إلى أن تم إلغاء الحكم الفيدرالي والحكم الذاتى الأرتري، وضم أرتريا نهائيا إلى أثيوبيا بطريقة غير قانونية.

 البوليس الأرتري تحت إمرة الجنرال:

 بعد أن اشتدت معارضات الاستقلاليين وشكاويهم ضد انتهاكات أثيوبيا، لجأت الحكومة إلى ممارسة القمع والإرهاب السياسي، وتولى المذكور تنفيذ هذه السياسة، وفي أيامه أرسلت بعثة من البوليس الأرتري إلى إسرائيل لتتعلم أساليب التحقيقات البوليسية، فعادت البعثة وقد تمرست على أساليب التعذيب، وكيفية انتزاع الاعتراف القسري من المعتقلين. وقد طبقت هذه الأساليب على الأحرار المناضلين من أبناء البلد ببشاعة لم يسبق لها مثيل في القطر الإرتري. ومن ضمن وسائل التعذيب التي مورست في حق الأحرار كان: رض الخصيتين (لقطع النسل)، والضرب على أعقاب القدمين وبطونهما، وربط قوارير الماء الكبيرة على الذكر وإجبارهم على المشي معها، وتغطيس رؤوسهم في براميل الماء، وكتم الأنفاس، والجلد، والكي بالنار، وقلع الأظافر، وغير ذلك من أشكالها. وقد مات تحت التعذيب عدد من الأحرار، وأصيب آخرون بعاهات، وأعدم البعض رميا بالرصاص في فناء أسمرة. وقد ألقي بالكثير في السجون دون محاكمة، وقمعت جميع مظاهرات الطلاب و العمال  بقسوة متناهية، وقد ضج الشعب من جراء هذه الإجراءات بالشكاوى، ولكن لم يجد أذنا صاغية .

 بدايات الخلاف بينه وبين الحكومة الأثيوبية:

وفي المؤامرة الأخيرة التي أسقط فيها القرار الفيدرالي والحكم الذاتي الأرتري، كان للبوليس تحت إمرة الجنرال دور مميز، حيث قام البوليس بالتقاط نواب الجمعية من مختلف الأماكن، وسوقهم كالماشية إلى داخل غرفة البرلمان لإنجاح مؤامرة ضم أرتريا إلى أثيوبيا، وكان للجنرال النصيب الأوفر في إنجاح المؤامرة نتيجة لما كان في يده من السلطة المسلحة.

وعلى عكس توقعات الجنرال ورفيقيه المذكورين الذين كانوا ينتظرون المكافآت من الإمبراطور، “حيث باعوا له وطن الشعب الأرتري وعزته وحقوقه وفرضوا عليه الاستعباد”، فإن الإمبراطور أدرك “أن من باع له وطنه يبيعه بعد ذلك للآخرين”، فقرر إبعاد الثلاثة من القطر الأرتري إلى أثيوبيا، فامتثل رئيس الحكومة، “أسفها ولد مكائيل”، والقس “ديمطروس”، نائب رئيس الجمعية الأرترية، للأمر وأذعنوا للقرار، فانتقلوا الى أديس ابابا وهما فى موج من الحزن والأسى، لفراق وطنهم ونعيمهم الذي كانوا فيه.

أما صاحب الترجمة فلم يمتثل للقرار، ورفض مفارقة وطنه أرتريا، ومن هنا بدأ النفور بينه وبين سيده الإمبراطور، وبدأ هذا النفور يتسع يوما بعد يوم. وقد ذكرت عدة أسباب لتنامي هذا النفور وفيما يلي تفصيلها:

  • عرضوا عليه منصبا كبيرا في أديس أبابا، فرفض قبول ذلك.
  •  عرضوا عليه أن يسافر إلى الخارج ليستزيد من التعليم، فرفض.
  • كان هو الزعيم الكبير الوحيد لمديرية سراى، وبعد إلغاء الفيدرالى وتغير النظام، صار نائب الحاكم العام ومدير المديريات من محافظة أكلى غوزاى، ومحافظ بلدية أسمرة من محافظة حماسين، ومديريته بقيت مهملة، فاغتاظ من ذلك ورفع شكواه إلى الحاكم العام، فلم يلتفت إلى شكواه، بل أمره ألا يقابله مباشرة مرة أخرى، إلا بواسطة مدير الداخلية ثم بنائبه.
  • عرض عليه نظام جديد للبوليس، وهو أن يكون بوليس كل مديرية مستقلا برئاسته، على أن تكون فى أسمرة رئاسة رمزية، فرفض قبول ذلك.
  • طلب منه تسليم إدارة البوليس إلى رئاسة بوليس أثيوبيا مع أسلحته، فرفض.
  • في شهر نوفمبر 1962م، عقب إلغاء الفيدرالى قامت مظاهرات في جميع مدن أرتريا، وكان البوليس يقبض على المتظاهرين ويجمعهم في السجون والمعتقلات ويأخذ منهم الصور الفوتغرافية، وهذه الصور قد تسربت فيما بعد إلى الخارج ووصلت إلى جبهة التحرير الأرترية، وهي بدورها مع مذكرتها بعثتها إلى سكرتيرية الأمم المتحدة وإلى مؤتمر الأقطار الأفريقية الذي انعقد بأديس أبابا في شهر مايو 1963م، ووصلت تلك الصور إلى الإمبراطور فغضب، وكان متيقنا أنها من محفوظات البوليس، وما تسرب ذلك إلى الخارج إلا بسبب خيانة رئيس البوليس المذكور، فطلب من حاكم عام أرتريا إرساله حالا، فأبلغه حاكم عام إرتريا بذلك ، فرفض؛ فأصدر الملك أمرا بعزله، فلم يلتفت إليه لكون ذلك من شؤون أرتريا الداخلية، وهو لا سلطة له فيها.

تحركاته لإعادة الحكم الفيدرالي:

بعدما رفض الجنرال الرغبة الإمبراطورية بالانتقال إلى أديس أبابا أو بالسفر الى الخارج، أدرك بأن وراءه خطر يهدد كيانه، ففكر في الخلاص من ذلك، وندم على خيانة وطنه، فاتجه إلى عمل يغسل به تلك الخيانة، وسعى لإعادة النظام الفيدرالي والحكم الذاتى كما شرعته المنظمة العالمية، وعمل اتصالات سرية مع جبهة تحرير أرتريا ليتعاونوا معه في عمل انقلاب داخلي، غير أنه لم يجد أحدا يثق بكلامه بسبب ما عرف من ماضيه، كما عمل اتصالات أخرى مع القانونيين والقناصل وغيرهم، وعلى الأخص القنصل البريطاني والأمريكى في مدى قانونية إلغاء الفيدرالي، فوجد منهم الإفادة ببطلانها وعدم قانونيتها، فوجد في ذلك تشجيعا.

وكان الجنرال يجمع ضباطه ويبدى لهم خطورة موقفهم حيث أصبح الشعب كله ناقما عليهم وأنه لابد لهم من القيام بعمل ينالون به رضا الشعب. وأخيرا عزم على عمل الإنقلاب، وأشعر ضباط البوليس في جميع المديريات بأن يكونوا على استعداد لتنفيذ الأوامر التي ستصدر إليهم، وكتب تقريرا سريا يشرح فيه عزمه على إعادة النظام الفيدرالي وبعثه إلى قناصل الدول في أسمرة.

وفى اليوم الذي قتل فيه، جمع ضباط البوليس وألقى فيهم كلمة قال فيها: “إن القرار الحاصل في البرلمان هو قرار باطل وأن قرار المنظمة العالمية بين أرتريا والتاج الأثيوبي ما زال ساري المفعول وواجبنا أن نحافظ عليه وعلى دستورنا ….”، ثم قام بتوزيع نسخ من الدستور الإرتري عليهم، وأرسل التعليمات كتابيا إلى مراكز البوليس في المديريات لإفادتهم بعودة النظام الفيدرالي، والعمل به كالسابق. وكان يسعى لتنفيذ خطته الإنقلابية في اليوم التالي وذلك بتعليق العلم الأرتري على جميع مكاتب الحكومة في ساعة واحدة، وإلقاء القبض على رجال العهد السابق، والاستيلاء على كافة الأجهزة الحكومية، ولكن الحكومة الأثيوبية كانت له بالمرصاد.

حصار الجيش الأثيوبى ومقتله:

بعد مضي حوالى نصف ساعة على اجتماع الجنرال بضباطه، قطع خط الهاتف فجأة من رئاسة البوليس، وحضر الجيش الأثيوبى المرابط في أسمرة وهو مجهز بكامل أسلحته وعتاده الحربي، وحوط منطقة رئاسة البوليس والمناطق المتصلة والقريبة منه إحاطة السوار بالمعصم، خوفا من هربه إلى الخارج أو إلتجاءه إلى إحدى القنصليات الموجودة بأسمرة، ثم دخل أفراد الجيش إلى دار الرئاسة وهم  يصوبون البنادق والمسدسات على كل من فيها، وأمروا الضباط بالاستسلام ثم أركبوهم في سيارات الجيش وساقوهم إلى ثكناتهم، ثم دخل ثلاثة أنفار من الجيش على الجنرال في مكتبه، وبعد قليل سمع صوت إطلاق الرصاص، وشوهد الثلاثة وهم يغادرون مكتب الجنرال، ومن حين خروجهم ضربت صفارة الانصراف فغادر أفراد الجيش حالا، وبعد قليل عادوا مع الطبيب وأعلنوا بأنه قد انتحر لأسباب مجهولة. وكان مقتله في يوم الثلاثاء 19 محرم 1383هـ الموافق 11 يونيو 1963م، وقد أصيب برصاصتين من مسدس، إحداهما في رأسه والثانية في قلبه، وقد فارق الحياة على الفور، وقد سلمت جثته إلى أهله ودفن في قريته في مديرية “سراى”، دون أي تشييع رسمي.

 واختلفت الإشاعة في قتله على روايتين :

الأولى: أنه قتل نفسه بمسدسه، وهى رواية الحكومة الاثيوبية.

الثانية: أن رجال الجيش الأثيوبي قتلوه في مكتبه، “وهى رواية جمهور الشعب الأرتري وتكاد تكون حقيقة واقعية للتواتر العام”.

وقد عين الإمبراطور مكان الجنرال مساعده، “زرئيماريام أزاز” المنسعاوي، وكونت لجنة تحقيق من أديس أبابا برئاسة “دجارماش كفلى إرجاتو”، مساعد وزير الداخلية بأثيوبيا، وبعد 10 أيام أصدرت اللجنة البيان التالي:

“قد اتضح بصورة قاطعة من التحقيقات الدقيقة التي أجرتها اللجنة وقسم المباحث الجنائية وتقرير الطبيب الشرعي أن البريجادير جنرال تدلا عقبيت قد انتحر وضيع حياته بيده مندفعا وراء خيال الشعور بالعظمة وفكرة حب السيطرة الشخصية الخبيثة”.

وقد نشرت الصحف الخارجية ومنها مجلة “التايم” تفاصيل الحادث وأبعاده.


[1] فيتوراري أسفها ولدى مكائيل:

  • من أهالي سقنيتي من مديرية أكلى غوزاي، وينتمي إلى قبيلة “صنعدقلى”.
  • عمل موظفا في الحكومة الإيطالية، ثم الحكومة الأثيوبية، وعينه الإمبراطور نائبا لممثله بأرتريا.
  • تولى رئاسة الحكومة بعد استقالة “تدلا بيروا” في 9 أغسطس 1955م، وكان التصويت لصالحه في الجمعية 48 صوتا، مع معارضة 17 صوتا، وامتناع اثنين، وكان منافسه “فيتوراري حرقوت أباي” الذي أصبح عمدة أسمرة فيما بعد. وكان القاضي علي عمر من أشد المعارضين لتوليته نظرا لارتباطه الوثيق بحكومة الإمبراطور.
  • وقد شكل أسفها ولد ميكائيل حكومة مكونة من الوزراء الستة المذكورة أسمائهم فيما يلي:

1-          عمر حسنو، وزيرا للعدل والقانون

2-          سعيد صفاف، وزيرا للشؤن الإجتماعية

3-        محمود عمر إبراهيم، وزيرا للممتلكات الحكومية

4-       دجازماش أرأيا واسى، وزيرا للداخلية

5-       جرازماش تسفا يوحنس برهى، وزيرا للمالية

6-        تسفى يوهانس تسفا ماريام، وزيرا للإقتصاد

  • غادر أسفها أرتريا بعد إلغاء الفيدرالي واستقر في أثيوبيا
  • توفي في التسعينيات في إثيوبيا، بعد أن شهد سقوط الإمبراطور واستقلال إرتريا.

[2]  القس ديمطروس جبرى ماريام:

  • ولد في عام 1900م في مديرية سراي، وتعلم اللغة الأمهرية والمذهب القبطي في أثيوبيا، وكان يقوم بتعليم الطقوس الدينية في الكنائس.
  • في العصر البريطاني، نفي من بلدته إلى مدينة “تسنى”، بتهمة تشجيع المتمردين من الدولة.
  • في عام 1952م، صار نائبا عن بلدته في الجمعية الأرترية.
  • في عام 1953م، أسس جمعية الحواريين (محبر حواريات) وصار رئيسا لها.
  • في عام 1955م، صار نائبا لرئيس الجمعية الأرترية “بطريقة غير قانونية”، خلفا “لبلاتة دمساس” الذي أزيل من منصبه أيضا بطريقة غير قانونية.
  • صار القس صاحب النفوذ والكلمة في داخل البرلمان الأرتري ولعب دورا أساسيا في إلغاء النظام الفيدرالي.
  • تعرض القس في 29 أكتوبر 1961م، لهجوم بالقنابل من قبل شخصين أحدهما يسمى “جبرى مدهن مايلو”، والثاني “يوهنس عقبا أزقي”، وقد أصيب بالإغماء ولكنه سلم، وقد توفى أبن أخته وجرح آخرون .
  • أنتقل إلى أثيوبيا واستقر بها بعد إلغاء النظام الفيدرالي.
0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *