مقالات: العرف في الإسلام
انتشرت بعض التقاليد والأعراف المنافية للإسلام في وسط المجتمع الأرتري المسلم، فوجه سماحة المفتي جهوده نحو القضاء عليها وتوعية الناس بمخاطرها، وذلك من خلال الدروس والمحاضرات والمقالات المتعددة في الصحف المحلية. ومن هذه المقالات المقال التالي الذي يبدأ بمقدمة عن العرف في الفقه الإسلامي ثم يستعرض الجهود المحلية للقضاء على الأعراف الخاطئة مشيرا إلى أهمية تعزيز هذه الجهود وتثبيتها. المحرر
جريدة الوحدة
13 رمضان 1385 هجرية، الموافق 4 يناير 1965م
قال الله تعالى: “وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ”[1]، وأخرج الإمام أحمد في المسند وأبو داود الطيالسي والطبراني والبيهقي في الاعتقاد[2] عن عبد الله بن مسعود: “ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن.”[3] فهذا بعض ما استدل به العلماء على اعتبار العرف في الشرع .
العرف والعادة والتقاليد
العرف، والعادة، والتقاليد، والتعامل، عبارات متعددة في اللفظ متحدة في المعني، وهي أسماء لشؤون استقرت في النفوس من الأمور المتكررة المقبولة عند الطباع السليمة. وإنما تعددت الألفاظ بسبب تعدد أوصاف المعنى الواحد، فباعتبار كونها معروفة عند أربابها تسمى عرفا، ولتكرار العمل بها مرة بعد أخرى تسمى عادة، وباتباع الناس لها وأخذها بدون بحث عنها تسمى تقليدا، وباستمرار العمل بها تسمى تعاملا.
منشأ التقاليد والعادات
وهى بطبيعتها لا تأتي عفوا، بل لا بد لها من غرس أتت منه ورسخت بعد ذلك في النفوس حتى صارت عادة أساسية لحياة الأمة. فتارة تأتي من وضع واضع، وتارة أخرى تأتي من غير أن يعرف لها واضع، ومثل هذا النوع قد ينشأ من البيئة ومن نظم حياتها الاجتماعية جودة ورداءة. فمن الحياة السعيدة تتولد تقاليد مجيدة، ومن الحياة الرذيلة تنشأ عادات سخيفة. وتارة تأتى من الجيران أو من الأديان، فهذه الأخيرة إن كانت من الأديان السماوية تعتبر من أرقى العادات والعمل بها يكون عملا بذلك الدين.
العرف العام والخاص
ينقسم العرف إلى قسمين:
عرف عام: وهو ما كان لجماعة كثيرة لا يستند وضعه إلى طائفة مخصوصة يتناولها وغيرها، كالأوضاع القديمة .
وعرف خاص: وهو اضطلاع طائفة مخصوصة على شيء معلوم.
كما ينقسم العرف إلى:
عرف قولي: وهو أن يتعارف الناس إطلاق اللفظ عليه.
وعرف عملي: وهو أن يطلقوا اللفظ على هذا أوعلى ذلك ولكنهم فعلوا هذا دون غيره.
إصلاح الرسول للعادات الجاهلية
بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس الأربعين من عمره المبارك في عام 610م، والقوم الذين بعث إليهم كانت لهم عادات وتقاليد متوارثة، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يلغ تلك التقاليد جميعا بل غربلها، فأبطل منها الفاسد المضر، وأبقى على حاله الصالح المفيد، وعدل الصواب المخلوط بغيره إلى الصالح النافع.
أحكام تختلف باختلاف العادات
الأحكام نوعان:
نوع لا يختلف باختلاف البلدان الإسلامية كالصلاة والصوم والزكاة ونحوها.
ونوع آخر يختلف باختلاف عادات البلاد واستعمالاتهم، وهي الأحكام المبنية على العرف، وهى كثيرة منصوص عليها في كتب الفروع لمختلف المذاهب الإسلامية.
اعتبار الشرع للعرف
والعرف له اعتبار كبير في الشرع الإسلامي كما أشار إلى ذلك العلامة ابن عابدين في منظومته عقود رسم المفتي:
والعرف في الشرع له اعتبار لذا عليه الحكم قد يدار[4]
قال ابن فرحون في تبصرة الحكام: “إن الأحكام المترتبة على العوائد تدور معها كيفما دارت، وتبطل معها إذا بطلت … إذا كان الشيء عيبا في الثياب في العادة رددنا به البيع. فإذا تغيرت تلك العادة وصار ذلك المكروه محبوبا لم يرد به. وبهذا القانون تعتبر جميع الأحكام المترتبة على العوائد، وهو تحقيق مجمع عليه بين العلماء لا اختلاف فيه.”[5] ثم قال: “كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة.”[6]
قواعد في العرف
وفي كتب الأحكام للقضاء الشرعي مبحث مستقل يسمى باب القضاء بالعرف والعادة، وقد ذكر الفقهاء عدة قواعد عامة في العرف نحو ما يأتي أدناه:
- العادة محكَّمة، ومعناه أن العادة عامة كانت أو خاصة تقرر أمرا لإثبات حكم شرعي، وفرعوا على هذه القاعدة مسائل عديدة مبنية على العرف.
- العادة المضطردة تنزل منزلة الشرط، ومعنى ذلك أنما أثبتت العادة المتداولة المعمول بها يكون كالثابت بالشرط.
- المشروط عرفا كالمشروط شرعا، ومعناه إذا كان الشيء لازما وثابتا في العرف يكون معتبرا كما تعتبر الشروط الشرعية، ومنها تتفرع مسائل عديدة.
- العادة المخالفة للشرع تلغى، والعرف إنما يكون حجة إذا لم يخالف نصا شرعيا، فإذا خالف نصا شرعيا فلا عبرة له قطعا، بل يجب إلغاءه وإبطاله من أصله كالنياحة، وخمش الوجوه، وذر التراب على الرؤوس في الموت، واقتسام القبائل دية المقتول، وخرق الأنف بالزمام، والوشم، والشلوخ، والربا، والخمر.
- مسائل يتقدم فيها العرف على الشرع: وإذا تعارض العرف مع الشرع في مسائل لفظية قدم عرف الاستعمال، خصوصا في الأيمان. فإذا حلف لا يجلس على الفراش أو على البساط أو لا يستضئ بالسراج لا يحنث بجلوسه على الأرض، ولا بالاستضاءة بالشمس، وإن سماها الله تعالى فراشا وبساطا وسمى الشمس سراجا. ولو حلف لا يأكل لحما لم يحنث بأكل لحم السمك وإن سماه الله تعالى في القرآن لحما، ولو حلف لا يركب دابة فركب إنسانا لا يحنث وإن سماه الله تعالى دابة، وإن حلف لا يجلس تحت سقف فجلس تحت سماء لم يحنث وإن سماه الله تعالى عنده سقفا محفوظا.
مراعاة العرف عند الإفتاء
ولذا قالوا لا يمكن للعالم أن يطلق عنان الإفتاء في مسألة حتى يقف على عرف السائل لأن أهل كل جهة لهم عرف خاص تبنى أحكامها عليه. وقال العلامة ابن عابدين في رسالته نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف، ما يأتي نصه: “العرف يثبت على أهله عاما أو خاصا، فالعرف العام في سائر البلاد يثبت حكمه على أهل سائر البلاد، والخاص في بلدة واحدة يثبت حكمه على تلك البلدة فقط.”[7] و”على المفتي أن يفتي بما هو المعتاد في كل مصر”[8]، “فيعتبر في كل إقليم وفي كل عصر عرف أهله”[9]، ف”أن كل متكلم يقصد مدلول لغته فيحمل كلامه عليها وإن خالفت لغة الحاكم أو القاضي باعتبار قصده.”[10] ولذا جاء في شرح السير الكبير: “أنه يعتبر في كل موضع عرف أهل ذلك الموضع في ما يطلقون عليه من الاسم.”[11]
قال العلامة قاسم في فتاويه: “وكل عاقد يحمل على عادته في خطابه ولغته التي يتكلم عليها، وافقت لغة العرب، ولغة الشرع أو لا.”[12] قال في القنية: “ليس للمفتي ولا للقاضي أن يحكما على ظاهر المذهب ويتركا العرف.” [13]“قال القرافي في كتاب الأحكام: “ينبغي للمفتي إذا ورد عليه مستفت أن لا يفتيه بما عادته يفتي به حتى يسأله عن بلده، وهل حدث لهم عرف في ذلك البلد في هذا اللفظ اللغوي أم لا؟ وإن كان اللفظ عرفيا فهل عرف ذلك البلد موافق لهذا البلد في عرفه أم لا؟”[14]
اتحاد مسلمي أرتريا في العرف
والعرف متحد في قطرنا هذا بين المسلمين لكونه مأخوذا من الشرع الإسلامي وجزءا منه، ولذا فإن المرسوم الحكومي إعلان رقم 133 لعام 1952م في الفقرة (18) و(19) من المادة الرابعة قد جعله جزءا من القانون الشرعي. وقل أن يوجد بينهم عرف مخالف للشرع من جميع الوجوه، والقليل المخالف كان يوجد بينهم في الدية، وعوائد الزواج؛ كالغلو في مطالبة الحلي والمهر، والمظاهر الكاذبة، والإسراف في الولائم ونحوها؛ وفي عوائد الزينة كخرق الأنف، ووضع الزمام فيه، والوشم في الخدود؛ وفي عوائد المأتم كالنياحة، وخمش الخدود، ونتف الشعر، وذر التراب على الرؤوس، والنداء بالويل، والضيافة على أهل الميت، وعمل الصدقات له من ماله وفي ورثته أطفال صغار. ولكن هذا القليل قد حاربه رجال الدين الإسلامي في مناطقهم وبينوا للعامة ضررها وقبحها ومخالفتها للشرع حتى حملوا العامة على هجرها تدريجيا ووضعوا لإبطالها عدة قوانين ونشرات حتى كادت إلى الزوال ونشير إلى شيء منها فيما يلي:
أولا- في تاريخ 22 جمادى الأولى سنة 1356 هجرية، الموافق31 يوليو سنة 1937م، قد أصدر حاكم عام أرتريا الإيطالي بلاغا رسميا لمنع عمل الصدقات للميت من ماله إن كان في الورثة صغار، أو كان الورثة فقراء، ومنع كل ما يخالف الشرع الإسلامي على المسلمين: كنتف الشعر، وخمش الوجوه والأعضاء، وحث الرماد والتراب على الرؤوس حزنا على الميت؛ وطبع البلاغ المذكور باللغة العربية والإيطالية وأرسل إلى جميع القضاة والمشايخ ورؤساء القبائل والأقاليم لحكومة أرتريا وكلفوا جميعا بتنفيذه، وقد أصدر ذلك إجابة لرغبة زعماء المسلمين في منعها.
ثانيا- في عام 1360هـ، الموافق 1941م، قد عمل مسلموا أسمرة قانون شيخ جميل المحتوى على 20 مادة بمنع التشديدات والمخالفات الشرعية في الزواجات ونحوها، وجعلوا الغرامة على مخالفيها بمبلغ خمسة آلاف فرنك تصرف للجمعية الخيرية بأسمرة ونشر ذلك في الجريدة.
ثالثا- في عام 1363هـ، الموافق 1943م، قد وضع مسلمو أكلى غوزاي قانونا يحتوي على 191 مادة أبطلوا بها جميع العوائد المخالفة للشرع، ومنعوا التشديدات في مسائل الزواجات والمآتم، وطبع ذلك في كتيب ونشر.
رابعا – في عام 1362هـ، الموافق 1943م، قد عمل مسلمو كرن قانونا يحتوي على 7 مواد لإبطال النياحة، وخمش الوجوه، ونتف الشعر، وحث التراب على الرؤوس، وضرب الدفوف في الموت، واجتماع الشبان والشابات في الرقص ليالي الزواج ونحوه.
خامسا – في عام 1365هـ، الموافق 1946م، قد عمل مسلمو حرقيقوا قانونا يمنع الغلو والتشديد في الزواجات والمآتم، ومضى عليه 88 نفرا من أعيان المدينة.
سادسا – في عام 1371هـ، الموافق 1953م، قد عملت قبائل أغوردات قانونا لمنع المخالفات الشرعية في الزواجات والمآتم.
سابعا – في عام 1374هـ، الموافق 1954م، قد وضع مسلمو عدي وقري قانونا يحتوي على 16 مادة لمنع العوائد المخالفة للشرع والمضرة للشؤون الاجتماعية في مسائل النكاح، فأبطلوا فيه استعمال الخمر المسمى (البرزي) وسائر المسكرات، واللهو المشهور (بالقويلا)، والعادة الملقبة (بالمقنطاط) ونحوها.
ثامنا – في عام 1373هـ، قد وضع مسلمو مديرية سراى قانونا عرفيا يحتوي على 218 مادة.
تاسعا – في عام 1377هـ، قد عمل مسلمو مديرية الساحل قانونا عرفيا يحتوي على 198 مادة.
عاشرا – في عام 1377هـ، قد عملت قبائل بني عامر قانونا عرفيا يحتوي على 25 مادة.
كيفية الاعتماد عليها
هذا بعض ما وصل إلى مكتبنا من تلك القوانين والاتفاقات التي عملها مسلمو أرتريا لإبطال العوائد المخالفة للشرع والمضرة للشعب. وفي العادة كان يضعها فقهاء القبائل والمجموعات، ثم ترفع إلى القاضي الشرعي للمنطقة، فهو مع ملاحظاته يرفعها إلى مفتي أرتريا الذي يبحث بدوره من الناحية الدينية هل هى موافقة للشرع أم لا، فان استحسنها يحرر موافقته عليها والعمل على تطبيقها وبعد ذلك يتم الاعتماد عليها فترفع إلى مدير الجهة للتنفيذ غالبا.
وهذه الاتفاقات مفيدة ينبغي الإكثار منها، لأنها تحقق أغراض الشرع الشريف، ومطالب الناموس الطبيعي، وبنجاحها يترعرع تطور الشؤون الاجتماعية وتقل بين الأمة العوائد المضرة، والتقاليد المعيبة، والمظاهر الخالية، والفخفخة الكاذبة التي لا يترتب عليها أي مأثرة باقية ولا مبرة سامية. وهي في الجملة أفكار من مختلف المناطق الإسلامية في القطر تقصد إصلاح وتنظيم الشؤون الاجتماعية وليس بينها تعارض كثير لاتحاد مصدرها، فكان الأفيد تكوين لجنة من واضعيها لدراستها ومراجعتها ثم جمع المتفق منه في قانون موحد يمكن تسميته بالقانون العرفي لمسلمي أرتريا، ووضع المختلف فيه في التعليق على الهامش، ولنا الأمل أن يتحقق ذلك والله الموفق إلى سبل الهداية والرشاد.
[1] سورة الأعراف، آية 199.
[2] اسم الكتاب كاملا: الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد على مذهب السلف وأصحاب الحديث.
[3] هو جزء من حديث طويل لابن مسعود، ونصه في المسند: “حدثنا أبو بكر، حدثنا عاصم، عن زر بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود، قال: “إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسنا، فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئا فهو عند الله سيئ.” مسند الإمام أحمد، رقم 3600.
[4] ابن عابدين، عقود رسم المفتي، تحقيق: صلاح محمد أبو الحاج، مركز أنوار العلماء، 2020م، ص 74.
[5] ابن فرحون اليعمري، تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، مكتبة الكليات الأزهرية، الطبعة الأولى، ج 2، ص 73-74.
[6] المصدر السابق.
[7] ابن عابدين، نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف، دار سعادت، إسطنبول، 1907، ص 132.
[8] المصدر السابق، ص 133.
[9] المصدر السابق، ص 132.
[10] المصدر السابق، ص 138.
[11] السرخسي، شرح السير الكبير، الشركة الشرقية للإعلانات، 1971م، ص 303.
[12] قاسم بن قُطْلُوْبَغَا، مجموعة رسائل العلامة قاسم بن قطلوبغا، تحقيق: الدرويش، دار النوادر – سوريا، الطبعة الأولى، ص 721.
[13] ابن عابدين، نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف، دار سعادت، إسطنبول، 1907، ص 115.
[14] القرافي، كتاب الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام، دار البشائر الإسلامية – بيروت -، 1995م، ص 232.
اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!