أحداث عام 1948م في فلسطين وأصداؤها في أرتريا
وصلت أنباء المعارك الدائرة في فلسطين وما نتج عنها من كوارث ومآسي إلى إريتريا عبر المذياع، وعبر خطابات أرسلها مفتي فلسطين ورئيس الهيئة العربية إلى سماحة مفتي إريتريا، وإلى حزب الرابطة الإسلامية في إريتريا. وكان لهذه الأحداث صدى واسع في أنحاء القطر جعلتها موضع حديث الناس في مجالسهم ومصدر اهتمامهم. وقد أقيم لقاء عام بدعوة من سماحة مفتي إريتريا لجمع التبرعات لمنكوبي فلسطين، حيث أُقيم اجتماع ضخم حضره جمهور كبير في مساء يوم الأحد 6 شعبان 1367 الموافق 13 يوليو 1948م، في مدرسة الثقافة الإسلامية بمعهد فاروق الأول حول جامع أسمرة. وقد ارتجل سماحته كلمة افتتاح اللقاء، وهذه فقرات منها:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير من بعث سفيرا إلى الخلق أجمعين سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد :
فيا حضرات الإخوان يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. ومما أوجب السهر والحمى بأكمل معانيها على المسلمين في المعمورة عموما وعلى العرب خصوصا، هي مسألة فلسطين؛ حيث تكتنف قلوب الجميع موجة من الأسف والحزن على تلك المجازر البشرية البريئة … بدون ذنب جنتها أيديهم.
ولقد قامت الأمم العربية المجاورة لفلسطين بتقديم النفس والنفيس لإنقاذها من تلك الوهدة السحيقة، وبلادنا لبعدها وقلة استعداداتها لم تستطع أن تنهض لنجدتها بالنفس والمال معا كما فعل غيرنا، فلم يبقى بعد ذلك إلا أن نقوم ونساؤنا بما في استطاعتنا، وهو السعي والتكاتف لجمع التبرعات لمنكوبيها، فعلينا أن نجود بسخاء فإن المال إنما يدخر لمثل هذه الأيام، والواجبات البديهية لا تحتاج إلى الإطالة بالشرح والتوضيح، وأمامكم لجنة كونت لهذا الغرض فقدموا إليها ما في استطاعتكم ولكم الثواب والخلف من عند الله حيث قال جل شأنه: ” وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ”.[1]
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بعد انتهاء كلمة المفتي، بدأت اللجنة المكلفة بجمع التبرعات بجمع الأموال من الناس، وكان الإقبال عليها عظيماً بصورة لم يسبق لها مثيل. لقد تبرع سكان أسمرة من المسلمين العرب والوطنيين بمبالغ كبيرة في ذلك الاجتماع، وصلت إلى عدة آلاف من الجنيهات. وقد اتجهت اللجنة بعد ذلك إلى بقية مدن إريتريا مزودة بخطابات من مفتي إريتريا إلى القضاة لمساعدتها وتسهيل مهامها. وقد زارت اللجنة بالفعل كافة مدن إريتريا وجمعت مبالغ كبيرة من الأموال.
وصول وفد فلسطين والاحتفاء به.
وفي نهار الجمعة 25 محرم 1368 هجرية، الموافق 26 نوفمبر 1948م، وصل إلى أسمرة الشيخ محمد صبري عابدين، مراقب الشؤون الدينية بالمجلس الأعلى في القدس وأمين سر ديوان الهيئة العربية العليا لفلسطين، ومعه مرافقه الأستاذ جميل بركات. حيث عرجوا على إريتريا بعد أن زاروا اليمن وعدن لشرح قضية فلسطين ولطلب المساعدة. ولقد مكثوا في أسمرة أيامًا وزاروا الأماكن والمدارس الإسلامية، وأقيمت لهم عدة احتفالات من الرابطة الإسلامية والجالية العربية وبعض تجار المسلمين وغيرهم. وقد غادر الوفد إريتريا في يوم 6 صفر 1368 هجرية، الموافق 7 ديسمبر 1948م، متجهًا إلى الخرطوم. وفي نفس اليوم الذي غادر فيه وفد فلسطين، أرسلت لجنة جمع التبرعات لمنكوبي فلسطين مبلغ عشرة آلاف جنيه إلى بنك لندن باسم سليمان عزمي، رئيس الهلال الأحمر.
التحقيق مع المفتي بشأن التبرعات
ولقد استدعي سماحة المفتي من قبل نائب المستشار القضائي في صباح يوم الثلاثاء 7 رمضان 1376 الموافق 14 يوليو 1948م، لمسائلته عن التبرعات التي جمعت وقال له عبر المترجم: إن حاكم عام أرتريا قد علم عبر الإذاعة العالمية بأن مفتي أرتريا قد أرسل لمساعدة فلسطين مبلغ عشرة آلاف جنيه وقد غضب من ذلك وكلفني أن أستفهم منك عن حصول إرسال المبغ المذكور باسمك أم لا؟
فأجابه المفتي بأن المسلمين كونوا لجانا لجمع التبرعات لمساعدة منكوبي فلسطين، وأنه لم يرسل من هذه التبرعات شئ حتى الآن لا باسم المفتي أو غيره. وذكر له أن جمع التبرعات مسألة إنسانية، وأنه تم بعلم وإذن من الحكومة، ومادامت الحكومة قد أذنت بذلك فلا يرى مانعا من إرسال المبلغ باسم مفتي أرتريا. فرد عليه نائب المستشار القضائي: لا مانع من إرسال أموالك باسم إبراهيم المختار، ولكنه لايحق لك أن ترسل مال الشعب باسم مفتي أرتريا لأنك موظف حكومي، والحكومة محايدة في النزاع الواقع بين العرب واليهود في فلسطين، ولكن على أي حال أشكرك لعدم إرسال المال باسمك.
بعد أيام من ذلك اللقاء، اتصل هاتفياً بسماحة المفتي ملاحظ مصلحة القضاء المالطي، وقال له إن معالي حاكم عام إرتريا يشكرك كثيراً لكونك لم ترسل النقود باسمك إلى فلسطين، ويطلب منك أن تنبه المسلمين ومحافظ أسمرة على أن لا يرسل المال باسمك. وفور الانتهاء من المكالمة، اتصل المفتي بعمر سالم باعقيل، أمين صندوق لجنة التبرعات، وأرشده إلى الطريقة المناسبة لإرسال المبلغ.
وفي يوم السبت 17 رمضان، الموافق 24 يوليو من نفس العام، اتصل بالمفتي هاتفياً إسماعيل أفندي السوداني، كاتب محافظة أسمرة والحماسين، وقال له إن الإدارة البريطانية كلفتني أن أستفهم منك هل قلت في خطبتك التي ألقيتها في الاجتماع المنعقد حول جامع أسمرة لمساعدة منكوبي فلسطين “يجب على مسلمي المعمورة أن يساعدوا فلسطين”؟ فقال له المفتي إنها كانت كلمة ارتجالية ولا أتذكر ما قلته كاملاً. فقال له أرجو أن تكتب لي ما تتذكر منه، حيث إن الإدارة تطلب ذلك طلباً أكيداً… ثم عاود المذكور الاتصال مرة ثانية، وقال للمفتي: أرجوك أن تكتب لي ما تتذكره لأن الإدارة تلح وتشدد في طلب ذلك. فقال له المفتي: اكتبوا إلي جواباً رسمياً تبينون فيه ما تطلبون والأسباب التي أوجبت ذلك، وأنا أعطيكم الرد في ذلك. واستطرد سماحته قائلاً: لماذا كل هذا البحث والتحقيق معي؟ هل الحكومة نائبة عندنا عن الوكالة اليهودية بفلسطين؟ وكيف تحظر الحكومة عليّ التدخل في تبرعات فلسطين وأن أتكلم في شأنها في وقت يتحدث فيه كل من له كلمة من المسلمين؟ فقال الكاتب إني لا أعلم شيئاً غير أني مأمور بما قلت، وأظن أن جهة ما قد كتبت إلى الإدارة في ذلك. ثم انتهى الحديث عند هذا الحد، ولم يتصلوا بعدها بالمفتي.
التحقيق مع القاضي علي عمر في شأن التبرعات
وقد حقق أيضًا مع فضيلة قاضي عدي قيح، القاضي علي عمر عثمان، أنه قد خطب في مسلمي عدي قيح يحثهم فيها على التبرع لمنكوبي فلسطين، ولم يكتف بذلك بل سافر مع لجنة جمع التبرعات إلى صنعاء وحرض الناس هناك على التبرع. فناداه محافظ عدي قيح وقال له: بأي إذن سافرت إلى صنعاء وخطبت هناك؟ هل أعطاك المفتي الإذن بذلك؟ أم وجدت الإذن من غيره؟ فأخرج القاضي المصحف من جيبه وقال له: هذا الذي أعطاني الإذن حيث أمرني أن أتعاون في سبيل البر والتقوى، ولا أحتاج الإذن من غيره. ولما رأى المحافظ شدة كلامه، وقوة منطقه (وكان القاضي معروفًا بشجاعته وقوة شكيمته) تركه ورجع يلاطفه ويؤانسه.
[1] سورة سبأ، آية 39.
اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!