جهود المفتي في توحيد المسلمين في رمضان والعيد
الاختلاف حول بداية ونهاية رمضان كان من الأمور الشائعة في إرتريا قبل وصول سماحته. وكان هذا الاختلاف يؤدي إلى كثير من المناحرات والتعصبات. وكان الناس بالإضافة إلى هذا يرفضون الأخذ بإعلانات الإذاعات الخارجية في العالم الإسلامي، ويصرون على رؤيتهم الخاصة في مناطقهم. يقول سماحته في وصف هذه الحالة المؤسفة:
“فكل طائفة تعتبر ما عندها ولا تعتبر ما عند غيرها في رؤية الهلال، فمديرية من أرتريا تصوم والأخرى تفطر في ذلك اليوم، وقاضٍ يعلن الصيام وآخر يعلن الإفطار مضادًا له، وإمام يقيم صلاة العيد في الصحراء، والآخر يقيم جنبه جماعة أخرى، وإمام يقيم الصلاة بجماعة وآخر بعد انتهاء الجماعة يعلن على المصلين ببطلان صلاة إمامهم ويأمرهم بإعادة الصلاة، والإذاعات الخارجية تذيع ثبوت هلال رمضان وهلال شوال وهم يرفضون الصيام والإفطار إلا أن يروا الهلالين بأعينهم…”
وقد حرص سماحته على توحيد الناس وقطع الاختلافات ولذلك اتخذ مجموعة من الإجراءات أدت في النهاية ثمارها وأنهت هذه الاختلافات بصورة نهائية. فقد قام سماحته بتوعية الناس عبر دروسه وخطبه ومقالاته بخطورة هذه الانقسامات. وسعى لعقد مؤتمر لقضاة إرتريا لاتخاذ موقف موحد على
مستوى القطر. فعقد هذا المؤتمر وأصدر ضمن ما أصدر قراره حول هلال رمضان والعيد. وأصدر قرار باعتماد ما تذيعه إذاعات الدول الإسلامية في إثبات رؤية الهلال، منهيا بذلك اعتراضات المعترضين. وفيما يلي فقرات من القرار الذي صدر من هذا المؤتمر التاريخي:
“وما يذيع الأثير نقلا عن الحاكم الشرعي في ثبوت رمضان كلمات تسمع شفهيا من ناطق يغلب على الظن صدقه، وقد نص جمهور الأصوليين بأن الحقوق الخالصة لله تعالى يكون خبر الواحد فيها حجة ويشهد لذلك ما رواه أصحاب السنن الأربعة عن ابن عباس قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال قال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، قال: يا بلال أذن في الناس أن يصوموا. قال: عمر رضي الله عنه: الله أكبر إنما يكفي المسلمين الرجل الواحد.
وقد قال الحافظ ابن القيم الجوزي في كتابه الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: “لا يجوز لحاكم ولا لوال رد الحق بعد ما تبين وظهرت أمارته …” [ويقول:] ” الشريعة لا ترد حقا، ولا تكذب دليلا، ولا تبطل أمارة صحيحة، وقد أمر الله سبحانه بالتثبت والتبين في خبر الفاسق، ولم يأمر برده جملة، فإن الكافر والفاسق قد يقوم على خبره شواهد الصدق، فيجب قبوله والعمل به”.[1]
وإذا جاء جواب الحاكم الشرعي أو تلغرافه بثبوت شهر رمضان لديه، فقد صرح العلماء قبوله والاعتماد عليه. والأخبار التي يذيعها الأثير من الأقطار الخارجية الإسلامية بثبوت رمضان هناك أقوى وأفيد من إفادة الجواب والتلغراف، حيث أنه خبر يسمع شفهيا من إنسان.
لذا قرر المؤتمر العمل بها إن كانت تلك الأخبار تصرح بثبوت شهر رمضان لدى الحاكم الشرعي هناك، واستفاض خبر ذلك بطرق يغلب على الظن رجحان جانب صدقها. وفي وسع الحاكم الشرعي في قطر آخر الاعتماد عليها لإعلام المسلمين بالصيام، لما فيه من الاحتياط في العبادات ولأن فرض رمضان عند جمهور العلماء لايختلف باختلاف الإقطار متى تحقق سببه وهو الرؤية، فيدور معها وجودا وعدما لأنه خبر ديني أشبه الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخبر بدخول وقت الصلاة، والخبر عن القبلة.”
ولم يكتفي سماحته بهذا بل أصدر منشور رقم 7 لمحاكمة ومعاقبة من يخالف هذا الأمر. وبذلك تم قطع الطريق على العناصر التي كانت تثير الانشقاقات والاختلافات وتم توحيد كلمة المسلمين. وقد ذهب سماحته إلى أبعد من هذا حيث سعى لجمع كلمة المسلمين على مستوى الأقطار في العالم الإسلامي وتحادث سماحته في هذا الشأن مع كل من تيسر له الالتقاء به من الزعماء الدينيين في الخارج. كما انتهز سماحته فرصة وصول وفد أزهري إلى أرتريا في عام 1951م كان يقوم بجولة في الصومال وعدن والحبشة لدراسة أحوال المسلمين، فعرض عليهم مقترحاته طالبا من المؤسسات الدينية في مصر التي كانت لها الريادة في العالم الإسلامي آنذاك أن تأخذ زمام المبادرة في هذا الشأن. وقد كتب سماحته الرسالة التالية إلى قاضي مصر لإشعاره بقرار مؤتمر القضاة في أرتريا ولحثه على اتخاذ خطوات لتوحيد العالم الإسلامي في رؤية الهلال.
حضرة صاحب الفضيلة رئيس المحكمة العليا الشرعية بمصر
السلام عليكم ورحمة وبركاته
وبعد
لي الشرف العظيم أن أرفع إلى فضيلتكم مايأ تي أدناه:
- كان يحصل اختلاف بين المسلمين في القطر الأرتري في صيام رمضان وفي العمل بخبر الأثير في ثبوته.
- لمعالجة ذلك وأمثاله قد انعقد في مدينة أسمرة مؤتمر القضاة الشرعيين في القطر الأرتري في أوائل هذا العام، وقرروا فيه العمل بخبر المذياع في ثبوت هلال رمضان إن بلغهم حكم الحاكم الشرعي بذلك، كما ترون قرارهم في الصحيفة المرفقة لكم مع هذا.
- كما لا يخفى على فضيلتكم أن كتب المذاهب الأربعة تنص بأن حكم الحاكم الشرعي بثبوت هلال رمضان يوجب الصيام على عموم المسلمين حتى عند القائلين باختلاف المطالع، بناء على أن حكمه يرفع الخلاف. ولكن في إذاعة الأثير لا يتيسر غالبا سماع حكمه بلفظه على طريقة تقنع الرأي العام الإسلامي بطرفنا، وحيث أن قاضي مصر أهم حاكم إسلامي له من الوسائل ما لا يتحقق لدى غيره في هذا الموضوع …أود أن أقترح على فضيلتكم أن يذاع لفظ حكمكم بنصه في ثبوت هلال رمضان إلى العالم الإسلامي عدة مرات في تلك الليلة من مختلف محطات الإذاعة حتى يعمل به من سمعه أولا، ويسمعه من فات منه السماع في المرة الأولى، ويتأكد من التبس عليه السماع. وربما يكون في هذا العمل أجل خدمة تقدمها مصر الكريمة إلى العالم الإسلامي بجانب خدماتها الأخرى له، رجاء توحيد صفوفهم في هذه الشعيرة السنوية على وجه المعمورة، في وقت اشتدت حاجتهم إلى الوحدة في هذا وأمثاله. وتجدون تفاصيل أخبارنا مع فضيلة الشيخ محمود خليفة والشيخ عبد الله المشد مبعوثي الأزهر إلى هذه البلاد والحاملان لهذا الجواب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حرر في صباح يوم الخميس 28 ذي القعدة عام 1370 الموافق 30 أغسطس 1951م
إبراهيم المختار أحمد عمر مفتي الديار الأرترية ..
[1] ابن قيم الجوزية، الطرق الحكمية، المحقق: نايف بن أحمد الحمد، دار عطاءات العلم (الرياض) – دار ابن حزم (بيروت)، الطبعة: الرابعة، ج 1، ص 63.

اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!