موقف المفتي من تبرع مشبوه
جاء إلى مكتب سماحة المفتي “مستر داهية”، الموظف بمكتب الحاكم العام لأرتريا، ومعه المترجم، حاملًا سؤالًا من الحاكم العام حول جواز قبول تبرع من تاجر بهائي بأسمرة عرض على الحاكم العام التبرع بمبلغ من المال للمسلمين والمسيحيين. فأجابه سماحته بجواز قبول التبرع متى ما كان خاليًا من أغراض أخرى. وبعد هذا بخمسة أيام، في 14 مايو 1964م، طُلب منه الحضور إلى مكتب حاكم عام أرتريا، فذهب سماحته للمقابلة، فوجد جماعة من الناس منهم: حاكم عام أريتريا، أسراتي كاسا؛ عمدة بلدية أسمرة، حرقوت أباي؛ ومدير الداخلية، دجيات زرؤم كفلي؛ وقساوسة يمثلون الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت؛ بجانب عشرة أشخاص من الجالية اليهودية أغلبهم من يهود اليمن، واثنين من الأمريكان، يتقدمهم رئيس الجالية اليهودية، شوعا مناحم منصور.
بدأ اللقاء بكلمة مكتوبة ألقاها بالعربية رئيس الجالية اليهودية، ذكر فيها كيف أنه أمضى 45 عامًا في أرتريا، عاش فيها وكأنه في موطنه الأصلي، والآن نتيجة لكبر سنه فإنه يريد أن يعبر عن امتنانه لكرم الضيافة التي قُدّمت له بتقديم تبرع مالي. وبعد أن أنهى كلمته، تقدم ضابط أمريكي يهودي وقرأ الترجمة باللغة الإنجليزية، ثم قام رئيس الجالية بتسليم أربعة ظروف للحاكم العام. فقام الحاكم بإعطاء الظرف الأول لسماحة المفتي، فرفض سماحته قبول الظرف، فظهر الغضب على وجه الحاكم العام، ولكنه تمالك نفسه وأعاد ذلك الظرف لرئيس الجالية، ثم سلم الظروف الثلاثة الباقية لبقية القساوسة، وكان المصور يلتقط الصور أثناء استلام الظروف.
انفض الاجتماع والغضب بادي على وجوه الحضور من رفض سماحة المفتي قبول التبرع. وبعد مغادرة الحضور، تحدث سماحته مع الحاكم العام، وأبدى له أسفه لاستدعائه لهذا الاجتماع دون غيره من رؤساء الطوائف الدينية الأخرى (كان الممثلون الذين حضروا من عامة القساوسة). فقال الحاكم العام إن جميع الرؤساء كانوا خارج المدينة، فرد سماحته: “إذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا تطلبون من ينوب عني؟” ثم قال الحاكم العام إنه، تجنباً لحدوث أي إشكال، أرسل إليكم استفساراً عن جواز قبول التبرع، فأجبتم بنعم. فرد عليه سماحته بأن السؤال كان مغايراً للواقع تماماً، وإن كان معتقد الشخص لا يهم ما دام التبرع خالياً من أي غرض، ثم أبدى سماحته استغرابه لهذه الإجراءات، وإن التبرع الخالص يمكن أن يتم دون كل هذه الإجراءات.
وقبل أسبوعين، حدثت حادثة أخرى في مناسبة رسمية أدت إلى مغادرة سماحته الحفل، وهو موقف أغضب الحاكم العام. فذكر سماحته للحاكم العام أن حدوث هذين الحادثين خلال أسبوعين لا يمكن أن يكون عفواً، ولم يتكرر مثل هذا في حكم من سبقه، ثم طلب سماحته عدم نشر صورته – إن كانت هناك صور قد التقطت-. وقد رفض سماحته هذا التبرع لأسباب ذكرها في مؤلفه منها:
- كان تبرعًا تحيط به الريبة. فالسؤال المرسل إلى سماحته كان سؤالًا تضليليًا، حيث كان يتعلق بتبرع تاجر بهائي وليس يهوديًا، رغم أن معتقد الشخص لا يهم من ناحية قبول التبرع.
- كان سماحته والمسلمون مستائين من مواقف الجالية اليهودية في أسمرة ورئيسها. يقول سماحة المفتي: “إن الجالية اليهودية في إريتريا كانت أقلية عربية من يهود اليمن، ومسالمة تعيش مع المسلمين في أخوة متبادلة في مصوع وأسمرة”. ولكن هذه العلاقة تبدلت بعد قيام دولة إسرائيل، حيث أصبحت الجالية تتصرف وكأنها “سفارة لها في هذا القطر، تمدها بالمساعدات وتقيم الاحتفالات السنوية لأعيادها القومية”، ولم تكتف بذلك بل حاولت الجالية منع المسلمين من جمع التبرعات للاجئين الفلسطينيين، ورفعت الشكوى إلى الإدارة البريطانية حين جمع المسلمون مبلغ أحد عشر ألف جنيه، ونتيجة لهذه الشكوى تم استدعاء المفتي من قبل الإدارة البريطانية والتحقيق معه في هذا الشأن.
- كان الغرض من هذا التبرع مما يثير التساؤل. لماذا يتبنى الحاكم العام هذا الأمر بنفسه؟ ولماذا يتم استدعاء المصورين؟ وكان سماحته يخشى أن يكون وراء ذلك هدف سياسي يقصد منه تشويه سمعة المسلمين الإريتريين في العالم العربي، وقطع تعاطف الحكومات مع قضيتهم والامتناع عن “مناصرة اللاجئين الإريتريين في بلادهم”.
أدى هذا الموقف إلى توتر شديد بين المفتي والحاكم العام، وقد ذكر بعض المقربين من الحاكم العام لسماحته أن الحاكم العام اعتبر مواقف سماحته إهانة وتحدياً له أمام الأجانب، وكان يفكر في اتخاذ إجراءات انتقامية، ثم عدل عن ذلك وقرر أن يبحث عن مخرج لهذا المأزق. فأوعز إلى امرأة قبطية مصرية تعمل موظفة في قصر ممثل الإمبراطور أن تفاتح سماحة المفتي في المصالحة. فاتصلت المرأة بسماحة المفتي، فأكد لها سماحته أنه لا يحمل في نفسه شيئاً للحاكم العام، وإنه إنما فعل ما فعل حفاظاً على كرامة منصب المفتي، وعلى المسؤولية الملقاة على عاتقه، وأنه لا يمانع في أي أمر يعين على إزالة أي سوء تفاهم.

اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!