موقف المفتي من العادات والتقاليد الجاهلية

انتشرت بين بعض القبائل المسلمة في أرتريا بعض التقاليد والعادات المخالفة للإسلام التي أصبحت مع مرور الأزمنة تقاليد متوارثة لا يجد الناس فيها غضاضة ولا حرجا، ويمارسونها وكأنها من الأمور المقبولة والمستساغة. ولم يكن من السهل التعرض لهذه التقاليد واستنكارها نظرا لرسوخها وتقادم العهد بها. وقد قام العلماء والدعاة على مر الأزمنة بكثير من الجهد لإبطال هذه العادات والقضاء عليها. وفيما يلي بعض من هذه التقاليد التي حاربها العلماء، وفي مقدمتهم سماحة المفتي.

الختان الجاهلي:

هاجرت في العصور المتأخرة من الأراضي الحجازية عدة بطون عربية، وسكنت في المناطق التابعة لمديرية البحر الأحمر واستقرت فيها. وكان من عادة هذه القبائل في الختان ترك الذكر إلى سن المراهقة، وبعد الخطبة مباشرة وقبل تحديد موعد الزواج ، يقيمون حفلة الختان والتي يسمونها “العلاء”. ويشارك في هذه الحفلة جمهور غفير، ومن ضمنهم الخطيبة وأقارب الطرفين، حيث يقف الشاب عاريا أمام الناس، ويأتي الخاتن مع سكينه ويسلخ الجلد من فوق العانة إلى رأس الذكر، وخطيبته مع قريباتها تشاهد ذلك، فإن أظهر المختون شجاعة وثباتا، تفرح الخطيبة ويفرح الأقارب والأصهار، ويثنون على شجاعة المختون وقوة شكيمته، ويهدون له الأموال. وإن أظهر الخوف أو الجزع، ترفضه الخطيبة، ويتعير به أقاربه. وكانت تترتب على هذه العادة مخاطر ومضار كثيرة، منها قطع القضيب، وفقدان القدرة على الإنجاب؛ وقد مات البعض من جراء هذا التقليد، وقد وصف سماحة المفتي هذا الختان بأنه من “الأعمال الهمجية ومخالف لختان الدين الإسلامي”.

وقد تدخل بعض العقلاء من أعيان المسلمين بمعرفة قاضي مصوع، وعملوا إتفاقا لإبطال هذا الختان، ومعاقبة المخالفين، وسجل ذلك الإتفاق في محكمة مصوع. ورغم هذا الإجراء فإن البعض ظل يمارس هذا الفعل، فرفع أمر هؤلاء إلى سماحة المفتي، فتوجه من حينه إلى مدينة مصوع، وعقد جلسة مع زعماء القبيلة ومرتكبي المخالفة، وتم في هذه الجلسة إقرارهم، ثم أخذ عليهم التعهد بعدم الرجوع لمثل هذا، وكونت لجنة من 12 شخصا من عقالهم وكتب سماحته على لسانهم وثيقة تحتوي على 6 بنود قرأه على جمهور الحاضرين، ثم طلب من اللجنة أن تمضي عليه، وزيل سماحته تلك الوثيقة بإمضاءه. وتم ذلك في 24 شعبان عام 1364هجرية الموافق 2 أغسطس 1945م.

وقد كتب سماحته في هذا رسالة سماها “الإلزام بإبطال عادة العلاء والزمام”. وقد اختفت هذه العادة تماما بعد ذلك.

الميراث بالرقبة:

الرق كان منتشرا في القطر الأرتري في العصور الماضية، وسواحله كانت متجرا للرقيق، حيث كان النخاسون يختطفون الأحرار من مختلف المناطق، وينقلونهم إلى الجزيرة العربية ليباعوا في أسواقها بأرباح كبيرة.  يقول سماحة المفتي في وصف ماكان يفعله النخاسون:

“إن من يسمون عبيدا في قطرنا هم أحرار خطفهم النخاسون المجرمون ظلما وباعوهم في الأسواق. وقد كان في ساحل البحر الأحمر إلى قبيل أيامنا جماعة حرفتها خطف الأولاد وبيعهم في بلاد العرب، ثم تفنن هؤلاء المجرمون لترويج بضاعتهم حيث كانوا يقومون بخصي ضحاياهم، طمعا في المال الوفير من أغنياء السوء، الذين كانوا يتهافتون على التغالي في أثمانهم ليكونوا خدما لنسائهم”.

وكانت من الآثار التي بقيت من عصور تجارة الرقيق، مشكلة “الميراث بالعتق وبالملك”. وكان القضاة الشرعيون في حيرة من أمرهم في معالجة هذه المشكلة، فعرضت على سماحته قضية رجل توفي في مدينة أسمرة، وترك أمولا، ولم يترك وارثا، فادعى شخص بأن الميت كان من عبيد جده، فهو ما بين أمرين: إما أنه من أملاك جده، أو من عتقاءه، ففي كلتا الحالتين هو المستحق للميراث. فقام سماحته بالتحقيق في القضية ثم حكم ببطلان الدعوى وعدم إستحقاقه للميراث. ونظرا لتكرر هذه الحالات فإنه أصدر فتوى عامة ببطلان الرق تماما وبطلان كل الدعاوي المرتبطة به. وقد اعترض بعض المنتسبين إلى العلم على فتوى سماحته فكتب رسالة مفصلة سماها: “تنبيه الرقود إلى فقدان الرقيق الشرعي من الوجود”. وبذلك حسمت المسألة على مستوى المحاكم وانتهت دعاوي الميراث بالرقبة.

الخمور والمسكر المعروف ب”البرزي”:

كانت الخمور والمسكرات بأنواعها المختلفة قد انتشرت في مجتمع العاصمة أسمرة، وبلغ من انتشارها ما ذكره سماحته من أنه كان يلقي دروسه في الجامع ورائحة المسكر تفوح من بعض الحاضرين. وكانت الخمور على نوعين: خمور أوروبية وخمور وطنية. وقد وقع الكثير من المسلمين فريسة للخمور الأوروبية تقليدا منهم للإيطاليين، وكانت الصحف تنشر الدعاية لهذه الخمور بخط الثلث العربي قائلة : “أشرب بفارية تعش مائة سنة”.

وقد شن سماحته الحرب على الخمور الأوروبية من أول يومه وبين حرمتها، والمخاطر المترتبة عليها من خلال دروسه ومحاضراته ومقالاته، وقام غيره من أهل العلم والدعاة بجهود مماثلة أدت إلى أنحسارها وإقلاع الكثير عنها.

وقد أجل سماحته الحديث في نوع من المسكر المصنوع من العسل والمعروف ب”البرزي”، وكان هذا المسكر منتشرا في أوساط بعض المسلمين، وكانت حفلاتهم لا تخلوا منه، وكانوا يشربونه حتى السكر ويعتبرونه من المباحات بحكم أنه مصنوع من العسل. وقد حاول سماحته إقناع أعيان المدينة بوضع قانون لإبطال هذا الشراب ومنعه في حفلات الزواج ولكنه واجه الرفض والصدود، فقرر بعد ذلك إعلان النكير عليها، وأختار مناسبة عامة في عام 1391هـ، وفي لقاء حضره 4000 شخص صرح سماحته في كلمته بذكر “البرزي”، وشدد النكير على شربه، وبين وأفاض في بيان حرمته وشناعته. ونظرا لشيوع هذا الشراب وتسامح الناس معه، فقد إنقسم الناس إزاء حديث سماحة المفتي إلى مؤيد ومعارض. وتزعم الطرف المعارض بعض أعيان ووجهاء المدينة، وقد سعى البعض منهم لرفع الشكوى إلى الحكومة مؤملين إقالة سماحته من منصبه ذاكرين أمورا وأسبابا أخرى. ورغم مابدر من الطرف المعارض من تجاوزات فقد التقى سماحته بممثلي المعارضين وفتح لهم صدره واستمع إليهم وحاورهم حوارا أبويا مفتوحا. وقد تحجج المعارضون بجواز هذا الشراب بأنه مصنوع من العسل وأن الله لم يحرم العسل بل جعله شفاءا للناس، وأن شربه ليس خاص بأرتريا فقط، بل إنه يشرب في مكة والمدينة. فناقش سماحته حججهم وبين بطلانها ووضح لهم الحكم الشرعي الصحيح وأدلته. ثم ذكر ممثلوا الطرف المعارض لسماحته أن حديثه الصريح وهجومه على البرزي في حفل عام قد أغضب أعيانهم وسبب لهم الحرج وجعلهم موضع شماتة وسخرية الأعداء. ثم طلبوا من سماحته أن يتمهل معهم وأن لايصرح بذكرها فوافق على طلبهم بشرط أن يقوموا هم بإتخاذ الإجراءات اللازمة لإبطالها والقضاء عليها تدريجيا. فوافق الوفد وخرجوا من اللقاء وقد طابت نفوسم وزال منها ما كان عالقا تجاه سماحته. وقد اختفى شراب البرزي بالتدريج من حفلات المسلمين تماما نتيجة للجهود المتواصلة للعلماء والدعاة.

عشر القضاة:

كان القضاة الشرعيون إبتداءا من العصر الإيطالي يأخذون معاشاتهم من الحكومة شهريا، بالإضافة إلى ما تعارفوا عليه من أخذ العشر من التركات في مناطقهم، حتى لو لم يقوموا بقسمة التركة. وقد عارض سماحته هذا العرف واستنكره وكتب وهو لايزال طالبا في الأزهر رسالة سماها: “تحذير القضاة عن تناول الرشوة والهدايا، وبعد عودته إلى أرتريا أصدر منشور رقم 4، والمحتوي على 13 مادة فيما يتعلق بالمحاكم الشرعية، وكانت المادة الخامسة من هذا المنشورتعالج قضية العشر وفيما يلي نصها:

“ممنوع بتاتا تناول القاضي شيئا محددا، لا عشرا ولا غيره، فإذا تولى القاضي قسمة التركة وتكلف في عمل ذلك، فحينئذ يجوز له أن يأخذ مثل ما يأخذ غيره إذا قام بمثل عمله”.

وحين وضع سماحته قانون المحاكم الشرعية رقم 22 حاول إبطال هذا التقليد نهائيا، ولكن نظرا لتمسك بعض القضاة به وإصرارهم عليه، خفضه من العشر إلى واحد في المئة كما هو موضح في مادة 203. وقد أشار سماحته إلى هذا في خطابه رقم 11534 في عام 1961م حيث يقول:

“القاضي الشرعي الذي يأخذ المرتب الشهري ليس له أي حق في رسوم الميراث سوى المبلغ المنصوص عليه في مادة 203 في مقابل تسجيل القسمة الذي هو بمنزلة أجر المثل التقريري للعمل”.

وكانت رغبة سماحته إبطال رسوم القضاة تماما، وتحسين معاشاتهم ولكن تدخلات السلطة في شؤون القضاء حالت دون هذه الإصلاحات وماشابهها.

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *