محاولة سم المفتي في مناسبة رسمية

كان سماحة المفتي مستهدفا من أطراف متعددة كانت تراه عقبة أمام مشاريعها الإستعمارية والطائفية التي كانت تهدف إلى زعزعة أمن وحدة البلاد ، وتهميش المسلمين وانتقاص حقوقهم. وكانت مواقف سماحته تجاه كل القضايا الوطنية والإسلامية ثابتة لاتتبدل رغم التهديدات والإغراءات المستمرة من جهات مختلفة. وقد تعرض سماحته في عهد الإنتداب البريطاني لمحاولات إغتيال وتصفيات متكررة من قبل عصابات “محبر أندنت” الإرهابية ، وكان سماحته ضمن قائمة الرموز الوطنية والإسلامية التي كانت تسعى لتصفيتها بعد إغتيال الزعيم الوطني الكبير عبد القادر كبيرى.

وبعد إنتهاء فترة الإنتداب البريطاني ووقوع أرتريا تحت حكم الإمبراطور ، تحول الإرهاب من إرهاب تمارسه عصابات مأجورة إلى إرهاب تمارسه الدولة عبر قنوات ووسائل مختلفة. وكان واضحا لدى القريب والبعيد أن السلطة ومن يدور في فلكها كانت تضيق ذرعا بسماحة المفتي وتسعى بوسائل مختلفة لإقصائه والخلاص منه. ولذلك ققد تعرض سماحته لأنواع من الأذى والدس في الخفاء والعلن من قبل السلطة أو من بعض الأطراف المقربة منها. وكان أذاهم يلاحقه حتى في الحفلات العامة. فقد كانوا في بداية أمرهم يتجاهلون توجيه الدعوى لسماحته ويضعون كرسيا للمفتي ويقولون للناس نحن ندعوه ولا يجيب دعوتنا إستخفافا بأثيوبيا. وحين يستدعى كانوا لايساوون بينه وبين بطريارك الأرثوذكس في المقاعد – كما كان متبعا في العصور السابقة – ويجعلون مقعده في مراتب أدنى ، وهو أمر احتج عليه سماحته أكثر من مرة.

ومن محاولات الإضرار الخفية التي تعرض لها سماحة المفتي وتركت أثارها في صحته هي محاولة وضع مادة سامة في فنجان قهوة سماحة المفتي في مناسبة رسمية. وقد حدث هذا في حفل غداء أقامه الإمبراطور في 16 محرم 1372هـ الموافق 6 أكتوبر 1952م ، ودعي إليه سماحته مع جمع من الأعيان والوجهاء. وكان سماحته جالسا في مائدة واحدة مع الحاج حسن علي ، والقاضي سعيد إمناى * – قاضي أسمرة والحماسين – وفيما هم يتجاذبون أطراف الحديث تقدم نحوهم شاب يحمل فناجين القهوة فوضع الفناجين أمام كل منهم ، ووضع فنجان سماحة المفتي قائلا بالتيجرينية “سيدي المفتي تفضلوا القهوة” ، فرفع سماحته الفنجان ، وتناول جرعة واحدة فشعر في الحال باختناق وألم في صدره ، فنظر إلى الفنجان فوجده مميزا عن فناجين جلسائه – ملوكيا مذهبا من جميع الأطراف – ، فلفت سماحته نظر جلسائه إلى ما أصابه من خلال هذا الكأس المميز ، فحاول الحاج حسن علي طمئنة المفتي قائلا: لايوجد شر لعلهم أرادوا إكرامكم باعتباركم مفتي المسلمين ، ولكن الألم لم يبارح سماحته فطلب إحضار الليمون وجاءه الرد بأنه لا يوجد ليمون ، فطلب السماح له بالخروج فرفضوا بحجة أنه لا يسمح لأحد بالمغادرة إلا بعد مبارحة الإمبراطور، فظل سماحته يتألم ويعاني حتى غادر الإمبراطور. وفور وصول سماحته إلى منزله بادر بتناول الليمون والثوم ، ثم ذهب إلى الطبيب فأعطاه حقنة وبعض العقاقير. فخف عنه الألم قليلا ثم عاوده مرة أخرى فراجع الطبيب ولكن الألم ظل يلاحقه ، فنصحه البعض بطب البادية فظل يتردد بين العلاج الطبي والشعبي حتى تماثل للشفاء.

 وقد زاد هذا السم في متاعب سماحته الصحية ، وظل أثره باقيا معه إلى بعض الوقت. وكان سماحته بعد هذه الحادثة حريصا في تناول ما يقدم له في الحفلات العامة ، وخاصة ما يقدم له على صفة الخصوص. ومما يدل على ذلك ما كان من سماحته حين تقدم الحاكم العام “أسراتى كاسا” نحوه في مناسبة رسمية وهو يحمل كأس العصير – فيما يبدوا تكريما للمفتي – قائلا تفضلوا يا سماحة المفتي ، حيث أخذ سماحته الكأس شاكرا دون أن يتناول منه شيئا ، وبعد إنصراف الحاكم العام عنه أعاد الكأس إلى موضعه كما كان.

 

_____________________________

* القاضي سعيد إمناي:

  • سعيد ابن أمان إمناي ، ولد عام 1299هـ الموافق 1881م في بلدة عد دحنو جهة سراي ، وإنتقل إلى كرن مع والده وعمره سبع سنوات.
  • تفقه على الشيخ حامد عوض بن أرى باروس ، والشيخ محمد العربي ، والشيخ داود أحمد – وكلهم من قضاة كرن – والشيخ محمد قنتور.
  • عين قاضيا في أول محمكة شرعية في أديس أبابا (ومعه ثلاثة قضاة أخرون) بعد الإحتلال الإيطالي للحبشة.
  • في عام 1928م نقل إلى قضاء أغوردات ، وفي عام 1938 نقل إلى قضاء “عد جرات”. وكان ذلك كله بسبب وشايات مغرضة من بعض خصومه.
  • تولى قاضاء تسنى ، وفي عام 1945م نقل إلى قضاء أسمرة والحماسين ، ثم عين عضوا في محمكة الإستئنافات الشرعية.
  • تقاعد عن العمل لكبر سنه في عام 1965م ، إنتقل إلى رحمة الله في 3 إبريل 1967م.