تجديد المسجد الحنفي بمصوع في عام 1954م
المسجد الحنفي في مدينة مصوع يُعتبر من أقدم وأعرق المساجد في إرتريا، ويعتقد أنه من آثار الدولة العباسية الأولى (انظر الملحق). وقد تم تجديده وإصلاحه مرات عديدة على مر العصور. في الزيارة الثانية التي قام بها الإمبراطور إلى إرتريا في 24 يناير 1953م، والتي تمت بعد ثلاثة أشهر ونصف من الزيارة الأولى، تم إبلاغ رئيس لجنة أوقاف مصوع، السيد حسين محمد الصافي، بعزم الإمبراطور على هدم جامع الحنفي وبنائه من جديد على الطراز الحديث. وأن الملك يريد السرعة في تنفيذ هذا الأمر ليضع حجر الأساس بنفسه قبل مغادرته إرتريا. وقد وافقت اللجنة على الفور، وصادقت على وثيقة القبول، وفيما يلي نص الوثيقة:
“إنه لما كان يوم الخميس المبارك في 13 جمادى الأولى 1372 الموافق 21 طري 1945 الموافق 29 يناير 1953م قد تكرم صاحب الجلالة الإمبراطور المعظم هيلا سلاسى الأول إمبراطور أثيوبيا والرئيس الأعلى للفيدرالية أثناء زيارته الثانية لبندر مصوع ببناء الجامع الحنفي على نفقته الخاصة وقبل المسلمون هذه المنحة القيمة من جلالته بالثناء والشكر.” (جريدة أثيوبيا، عدد 1371)
وقد تم إبلاغ سماحة المفتي بالأمر بعد توقيع وثيقة الاتفاق، وطلب منه الحضور في اليوم التالي 29 يناير 1953م، ليشارك في مراسيم وضع الإمبراطور حجر الأساس للمسجد الحنفي، ولكن سماحته اعتذر عن الحضور. تم وضع حجر الأساس في المسجد الحنفي في اليوم المحدد، وذلك إثر وضع الإمبراطور حجر الأساس لبناء كنيسة قبطية في مصوع، في أرض حكومية واسعة. ولم تكن هناك كنيسة في مصوع من قبل، ما عدا كنيسة صغيرة في حي “طوالوت” بُنيت في العصر الإيطالي. وقد عاتب سماحته لجنة أوقاف مصوع لموافقتهم على وضع حجر الأساس لمسجد الحنفي دون الرجوع إليه، فقالوا له إن أعوان الإمبراطور لم يمهلوهم ولم يعطوهم الفرصة للتشاور، وطلبوا منهم الموافقة الفورية، وخشيةً على أنفسهم من أن ينالهم المكروه لم يجدوا بداً من الموافقة. وكان سماحته يستنكر وضع حجر التأسيس لجامع أثري تاريخي مؤسس في السابق. وقد قبل المسلمون هذا التجديد على مضض ورغمًا عنهم، وذلك لخشيتهم من أن يحمل المسجد اسم الإمبراطور، ولأن المسجد كان قوي البناء ولا يحتاج إلى تأسيس. وكان التساؤل الذي يدور في أذهان الناس، لماذا لا يبني الإمبراطور مسجدًا آخر بدل أن يهدم مسجدًا أثريًا مؤسَّسًا. ولو كان حريصًا على مساوات الجميع وبناء المساجد، فلماذا يمنع المسلمون في بلاده من بناء المساجد بأموالهم الخاصة، وعلى الأخص مسلمو مدينة “أكسوم” الذين مُنعوا من بناء مسجد لهم، رغم كثرتهم ورغم شكاواهم المتكررة. وكانت القناعة عند الناس أن تجديد مسجد الحنفي إنما كان الهدف منه هو طمس هذا المعلم التاريخي، والدعاية للملك، وصرف الأنظار عن بناء الكنائس الكبيرة في المدن الإسلامية. وقد تكرر طلب تجديد الجامع وتأسيسه على نفقة الإمبراطور في مدينة كرن، فرفض قاضيها الشهير العلامة الشيخ موسى آدم عمران، وقال لهم: “أعطونا التبرع، ونحن سنقوم بإصلاحه.”
بدئ في هدم مسجد الحنفي في شهر شعبان 1372 الموافق مايو 1953. وقد حدث خلاف طويل بين لجنة الأهالي من جهة، والمهندس وممثل الإمبراطور من جهة أخرى، حيث اكتشفت لجنة الأهالي أن المسجد الجديد سيكون أضيق من سابقه، وأن هناك أراضي قد اقتطعت منه. وقد كتبت اللجنة العرائض ورفعتها إلى الجهات المسؤولة. وفي يوم الجمعة 24 جمادى الأولى 1373 هجرية، افتتح الإمبراطور في يوم واحد كنيسة الأرثوذكس في الصباح، وجامع الحنفي في المساء. وقد حضر سماحة المفتي حفل افتتاح الكنيسة بناءً على الدعوة التي وُجهت إليه. وحضر افتتاح جامع الحنفي الإمبراطور الذي جاء إلى المسجد برفقة زوجته وولديه وحاشيته ورجال الحكومة الإرترية. وكان عدد الحضور من المسلمين أقل من المتوقع، وذلك لعزم الأهالي على مقاطعة الاحتفال نتيجة للسخط الذي عم الأهالي بسبب سياسات الإمبراطور. وقد بذلت لجنة الأوقاف المحلية جهدًا كبيرًا لإقناع الأهالي بالعدول عن عزمهم على مقاطعة هذا الاحتفال.
وقد ألقى سماحة المفتي كلمة ترحيب، تلتها كلمة القاضي حامد أبو علامة، ثم كلمة الإمبراطور بالأمهرية والتي ترجمها إلى العربية الكولونيل أمان عندوم. وكان مما قاله في كلمته: “إنكم تعلمون أن إثيوبيا تتمتع بحرية الاعتقاد، ويشهد تشييد هذا المسجد على كلامي”. وقد كُتب على رخامة ملصقة بحائط الجامع باللغة الأمهرية:
“صاحب الجلالة إمبراطور أثيوبيا هيلا سلاسي الأول في حين زيارته الثانية لمملكته الأرترية بعد أن جاء إلى مصوع عن طريق البحر بواسطة سفينة حربية في يوم 21 طري 1945 لقد وضع الحجر الأول لهذا المسجد ليكون لشعبه المسلم” مصوع 21 طري 1945 (بالتقويم الحبشي)
الملحق: (نقل بتصرف من كتابات سماحة المفتي):
- في كتاب تاريخ مصوع لدانتي أودرسو الإيطالي، أن جامع الحنفي قد بُني في عام 800 ميلادية (ويوافق هذا عام 200 تقريباً من التقويم الهجري). وفي ذلك الحين كانت جزيرة باضع ملكاً للمأمون (الخليفة العباسي) كما تنص على ذلك معاهدة عظيم البجة كنون بن عبد العزيز مع عبد الله بن جهم، عامل أمير المؤمنين المأمون. فعلى هذا يكون جامع الحنفي قد بُني في تلك الأيام ويُعد من آثار الدولة العباسية الأولى.
- وذُكر أن جامع الحنفي بُني في القرن العاشر الهجري، بناه شيخ ذو كرامات يُدعى الشيخ آدم بن محمد البركوي. وكان للشيخ المذكور مخازن بُني فوقها الجامع، وبعد وفاته باع ورثته تلك المخازن، ونُقل المسجد من السطح إلى الأرض في عهد الحكومة المصرية بمساعدتها وعلى نفقة التجار، وجُدد بعد ذلك عدة مرات. ويُعتقد أن باني الجامع هو عالم تركي، ووالده محمد البركوي، صاحب التأليفات الكثيرة، مثل كتاب الطريقة المحمدية في بيان السيرة الأحمدية، وغيرها من المؤلفات العديدة المذكورة بعضها مع ترجمته في صفحة 610 من معجم المطبوعات للسركيسي، وتوفي حوالي عام 981 هجرية عن عمر يناهز الخمسين سنة.
- والراجح أن المسجد الذي جدده الإمبراطور بُني في حوالي عام 180 هجرية في العصر العباسي، ولعل جامع الحنفي المزعوم نسبته إلى البركوي يكون مسجداً آخر، بُني في قصره، وزال عن الوجود في أوقات لاحقة.
- وقد جدد الجانب الشرقي من جامع الحنفي في عام 1365 هجرية، المحسن الصادق الحاج عثمان عبد الله مفتاح اليماني، وجعل في سطحه مصلى لإقامة الصلوات فيها ليلاً في الأيام الحارة، وبلغت تكاليف هذه التجديدات حوالي ألفي جنيه.

اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!