سماحة المفتي الشيخ: إبراهيم المختار – رحمه الله –
الولادة والنشأة[1]
ولد سماحة الشيخ إبراهيم المختار أحمد عمر في شهر ربيع الثاني 1327هـ، الموافق عام 1909م. موضع ولادته قرية “كَنْدِدْ”، على بعد 30 كيلو مترا تقريبا من مرسى إرافلى الواقع على شاطئ البحر الأحمر في شرق إريتريا، حيث كان يعمل والده واعظا ومعلما لأهل تلك الناحية. والده هو العلامة الفقيه الشيخ أحمد عمر، الذي تلقى العلم أولا على يد علماء بلده، ثم ارتحل إلى الحجاز حيث تلقى العلم وأتمه، ثم عاد إلى أرض الوطن معلما ومرشدا؛ وكان من العلماء المشهود لهم بالزهد والورع. وقد دعي لتولي منصب القضاء -أيام الاستعمار الإيطالي- مرتين فرفض.
تربى سماحة الشيخ إبراهيم في جو علمي تحت رعاية وعناية والده، حيث قرأ عليه القرآن وختمه، وأخذ عنه مبادئ العلوم الشرعية كالفقه، وعلوم اللغة، والأدب وغيرها. وكان له منذ صباه حب شديد للعلم، ونفس تواقة للرحلة في طلبه. وقد شبه سماحته حبه المبكر للعلم بحب الشاعر الذي يقول:
أَتاني هَواها قَبلَ أَن أَعرِفِ الهَوى *** فَصادَفَ قَلباً خالِياً فَتَمَكَّنا
ولما بلغ العاشرة من عمره انتقلت والدته الكريمة إلى بارئها تاركة سبعة من الذرية، كان هو ثاني أكبرهم، فتحمل مسؤولية البيت في صغره، فقام برعاية إخوته، وبقي بجوار أبيه الذي كان قد كبر في السن، فقام بخدمته والعناية به على أكمل وجه، فنال رضاه وصالح دعاءه، حتى لبى والده نداء الحق في 26 صفر 1343هـ، الموافق 1924م.
مغادرة موطنه في طلب العلم وانتسابه بالأزهر
وبعد وفاة والده بوقت قصير، غادر سماحة الشيخ موطنه في ريعان شبابه، في 21 ديسمبر 1924م، واتجه نحو السودان برا. أقام في مدينة كسلا فترة من الزمن، ثم اتجه إلى أم درمان في 6 مارس 1925م. وفور وصوله انتسب بمعهد أم درمان، بعد أن تكفل أحد التجار[2] بنفقته ونفقة زميله.[3] التزم الشيخ بدروس المعهد وأقبل على الدراسة بجد وعزم، ولم يكتف بدروس المعهد فقط، بل اجتهد في تحصيل العلم خارجه من خلال مجالسة العلماء، ومنهم على الأخص الشيخ محمد القوصي المصري الحنفي، وشيخ علماء السودان الشيخ أبو القاسم وغيرهم. قضى في المعهد حوالي سنتين، ولكن قلبه ظل معلقا بمصر، بلد الأزهر الشريف، فغادر السودان متجها إلى القاهرة.
وصل إلى القاهرة في يوم 28 محرم 1345هـ، الموافق 1926م، وانتسب بالأزهر الشريف في يوم 28 صفر، بعد نجاحه في امتحان القبول في عهد شيخه الإمام الأكبر الشيخ محمد أبي الفضل الجيزاوي رحمه الله. فور انتسابه بادر إلى طلب العلم بهمة عالية، ورغبة جامحة، وحرص على تلقي الدروس في مظانه، داخل وخارج الأزهر الشريف. أقام في رواق الجبرتة في الأزهر -وقديما كان يعرف برواق الزيالعة-، وهو رواق مخصص لطلبة الأزهر القادمين من نواحي إريتريا وإثيوبيا، وله وقف خاص به.
وبينما كان الشيخ منكبا على دراسته، طارقا أبواب العلوم والمعارف، سعيدا بجوار الأزهر، أصيب بمرض خطير قطعه عن دراسته؛ فدخل المستشفى الإيطالي بالعباسية، ومكث فيه ثلاثة أشهر دون تحسن، فغادر مصر إلى وطنه مبحرا من السويس إلى ميناء مصوع في 24 يونيو 1930م. مكث في إريتريا مدة عام وشهرين،[4] عولج فيها بطب أهل البادية، فمن الله عليه بالشفاء التام. وعلى الفور، بدأ الشيخ استعداداته للعودة إلى مصر لإتمام دراسته، فانهالت عليه طلبات الأهالي بالبقاء بينهم والاستمرار في تعليمهم، وحاولوا إغراءه بالزواج والمال. وقال له بعض أعيانهم: يكفيك ما لديك من العلم وما أمضيته من سنوات في طلبه، ولكن عزم الشيخ على العودة كان لا رجعة فيه، فغادر البلاد مسرعا، حيث وصل إلى القاهرة في 12 سبتمبر1931م.
نيله الشهادة العالمية النهائية وتخصصه في الفقه والأصول
عاد الشيخ إلى الأزهر، والشوق والحنين يحدوه إلى حلقات العلم، وعاد إلى دراسته بعزم جديد، وإصرار قوي، حتى أتم تعليمه بنيل الشهادة العالمية للغرباء في 15 شعبان 1351هـ، الموافق عام 1932م، في عهد شيخ الأزهر الإمام الأكبر الشيخ محمد أحمد الظواهري. لم يكتف الشيخ بالحصول على الشهادة العالمية للغرباء، بل واصل دراسته للدخول في الامتحان النهائي للحصول على الشهادة العالِمية النهائية. وفي خلال هذه الفترة، سعى لتحصيل العلم على عدة مشايخ، وتردد كثيرا على مكتبات القاهرة[5] باحثا، ودارسا، مما مكنه من مطالعة مخطوطات نادرة، وموسوعات فريدة. وسعى الشيخ أيضا لتوسيع مداركه في مجالات إضافية أخرى، فانتسب في المدرسة الإيطالية ببولاق لتعلم اللغة الإيطالية، ثم في مدرسة تحسين الخطوط الملكية.
وبعد أن أتم الشيخ استعداده، اشترك في الامتحان النهائي، وحصل على الشهادة العالمية النهائية في 10 أغسطس 1937م، في عهد شيخه شيخ الأزهر، الإمام الأكبر محمد مصطفى المراغي. وبعد حصوله على الشهادة العالمية،[6] دخل في تخصص الفقه والأصول، ومكث فيه حوالي ثلاث سنوات حتى أتمه على أكمل وجه. وكان يجمع في هذه الفترة بين التخصص والعمل في مناح شتى؛ وبإتمامه التخصص انتهت صلته بالأزهر الشريف.
ذكر سماحة الشيخ بأنه تلقى العلم منذ بداية رحلته العلمية على 93 شيخا، ينتمون إلى أقطار، ومدارس، ومشارب مختلفة. وقد مكنه هذا التنوع من تكوين فهم موسوعي، يستوعب المدارس العلمية المختلفة، والمناحي الفكرية المتنوعة. وفيما يلي بعض المشاهير من مشايخه:
- الإمام محمد بخيت المطيعي (1854-1935م)، مفتي مصر.
- الإمام الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي (1881-1945م)، شيخ الأزهر.
- إمام أهل السنة الشيخ محمود خطاب السبكي (1858-1933م)، مؤسس الجمعية الشرعية في مصر.
- العلامة الفقيه الشيخ محمد زاهد الكوثري (1878-1952م)، من كبار علماء تركيا (أجاز له جميع مروياته).
- العلامة الشيخ عبد الرحمن محمد البنا الساعاتي (1883-1958م)، من علماء الحديث في الأزهر (أجاز له جميع مروياته).
- المحدث العلامة محمد حبيب الله الشنقيطي (1878-1943م)، من علماء موريتانيا والحجاز (أجاز له جميع مروياته).
- العلامة الشيخ عبدالرحمن عليش (1856-1940م)، من كبار فقهاء المالكية (أجاز له جميع مروياته).
- سماحة الشيخ مصطفى صبري (1869-1954م)، شيخ الإسلام في تركيا.
- الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت (1893-1963م)، شيخ الأزهر.
- الشيخ حسنين محمد مخلوف (1890-1990م)، مفتي مصر.
مارس الشيخ أنواعا من المهن التي اكتسب منها الخبرة العملية التي صقلت وأصلت تكوينه العلمي في الأزهر. وهذه بعض الأعمال التي مارسها في مصر:
- عمل مدرسا في التدريس الأهلي الحر على فترات متقطعة قبل تخرجه وبعده.
- عمل في المحاماة الشرعية، وتدرب عليها، واطلع على نظمها ولوائحها، فاكتسب خبرة كبيرة.
- عمل مصححا في مطبعة مصطفى البابي الحلبي وفي غيرها من المكتبات الصغيرة.
- دَرَّسَ العلوم الشرعية في حلقات الأزهر؛ في علوم البلاغة، والمنطق، ومصطلح الحديث، وغيرها.
وقد قام الشيخ بالتحقيق والتعليق على عدد من الكتب، ومنهاالكتب الآتية التي طبعت كلها في مصر:
- وصية الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان بن ثابت لتلميذه يوسف بن خالد السمتي البصري، ومعها منظومة في آداب العلم والتفقه. راجعهما وعلق عليهما، وطبعت الرسالة في مطبعة مصطفى البابي الحلبي سنة 1936م.
- متن تنقيح الأصول في علم الأصول، لصدر الشريعة عبيد الله بن مسعود المحبوبي البخاري الحنفي. راجعه وصححه وعلق عليه بإفاضة، طبع الكتاب في المطبعة المحمودية في شوال 1356هـ، الموافق 1937م. وقد تقرر تدريسه بكلية الشريعة الإسلامية بالأزهر الشريف.
- شرح العلامة الأميرعلى نظمي 39 مسألة التي لا يعذر فيها بالجهل، للعلامة بهرام ابن عبدالعزيز. راجع أصوله وعلق عليه، طبع في المطبعة المحمودية سنة 1940م.
وقد قام الشيخ بالتأليف لعدد من الرسائل الشرعية، طبعت منها في مصر رسالة واحدة عنوانها:
- هدية المستفيد في حكم صلاة الجمعة مع العيد، طبعت في مطبعة دار التأليف في عام 1961م.
وكتب أيضا مقالات متعددة في مسائل علمية مختلفة في أكثر من مجلة، ومن أهمها: مجلة الإسلام، لصاحبها أمين عبدالرحمن.
وقد توسعت إهتمامات الشيخ لتشمل الجانب السياسي والواقع الاستعماري. وكانت إريتريا في تلك الآونة مستعمرة إيطالية، وقد عايش سماحته السياسة العنصرية للاستعمار الإيطالي ورأى آثارها المجحفة. ومن خلال وجوده في مصر، كان متابعا لما يحدث في ليبيا من ممارسات الاستعمار الإيطالي، فسخر قلمه في فضح ممارسات المستعمر وسياساته العنصرية. وقد جمع بغض الاستعمار بينه وبين الأستاذ عبد الفتاح الرفاعي، صاحب صحيفة القلم الصريح، التي كانت تشن حملة شعواء على الاستعمار الإيطالي، فكان سماحته يحرر ويصحح ويمد هذه الصحيفة بمعلومات دقيقة، وينشر كل ذلك باسم مستعار، حتى لا يلفت نظر جواسيس إيطاليا المندسين وسط الإريتريين في مصر. ولقد صودرت صحيفة القلم الصريح عدة مرات، وأخيرا منعت من الصدور نتيجة لشكاوى الحكومة الإيطالية المتكررة. وكان سماحته يشارك أيضا في أنشطة بعض الجمعيات العامة، ومنها جمعية الشبان المسلمين في القاهرة،[7] التي كان يذهب إليها للاستماع لمحاضريها.
مرضه وعودته بصفة نهائية إلى إريتريا
ونتيجة لحياة حافلة بالاجتهاد والدراسة والبحث العلمي المستمر، مع ما كان يعانيه سماحته من متاعب صحية سابقة، فإن المرض عاوده حتى أجهد قوته، وشل حركته. ومن جراء ذلك دخل المستشفى في 30 أكتوبر 1939م، ووضع تحت الإشراف الطبي، ومنع من الكتابة أو بذل أي مجهود. أثناء وجوده بالمستشفى جاءه الخبر من السفارة الإيطالية بالقاهرة بتعيينه رئيسا للمحكمة الشرعية العليا بأسمرة (بطلب من أعيان البلد في إريتريا). تردد في قبول هذا التعيين نظرا لعدم رغبته في العودة إلى وطنه وهي تحت الاستعمار، ولكن بعد ضغوط متواصلة، تعهد بقبول الوظيفة وهو لا يزال في المستشفى. وبعد أن تماثل للشفاء، بدأ يستعد لمغادرة مصر، فاتجه إلى السويس ومنها إلى ميناء مصوع بحرا، حيث وصل إليها في 13 أبريل 1940م، ثم اتجه بعدها إلى العاصمة أسمرة لتولي مهام الإفتاء والقضاء، حيث وصلها في 10 ربيع الأول 1359هـ، الموافق 16 أبريل 1940م.
كان فراق سماحة الشيخ لمصر مؤلما؛ فقد أمضى فيها حوالي 15 عاما من زهرة شبابه، حيث وجد فيها مبتغاه العلمي، وصحب فيها خيرة مشايخه وأساتذته. وقد أشار إليها معبرا عن امتنانه لها بقوله: “الأراضي المصرية المحبوبة التي أظلتني بمعارفها الصافية، وغذتني بألبانها العذبة.” وقد ذكر سماحته بأن دموعه سالت بغزارة وهو يودع بالباخرة ميناء السويس، وأنه كان يردد في طريقه قصيدة الوزير الأندلسي أحمد ابن زيدون التي يقول في مطلعها:
أضحى التنائي بديلا عن تدانينا *** وناب عن طيب لقيانا تجافينا
وكان أصعب شيء على سماحته هو فراق الأزهر، الذي عاش في أكنافه، وصال في أرجائه، ونهل من حلقاته، والتقط كل قطرة من بحر علومه. ورغم مرور الأيام، فإن الحنين إلى الأزهر لم يبارحه، وقد عبر عن شوقه للأزهر بأبيات منها بيت قال فيه:
ليت لي عود بلثم ترابـــه *** وعمـر في ساحته مختـوم
ورغم هذا الحنين، فقد كان هذا آخر عهد لسماحته بالأزهر، ولم تتسنى له عودة أخرى إلى مصر بعد رحيله وانشغاله بشؤون القضاء والإفتاء في إريتريا.
المناصب التي تولاها في إريتريا
انخرط سماحة الشيخ في الحياة العامة لإريتريا فور وصوله، فقد كانت البلاد بحاجة إلى العلماء من أمثاله، وكان لسماحته مشروع إصلاحي يتطلع للشروع فيه فور وصوله. فباشر أعماله دون تباطؤ، وعلى مدار الأيام تولى العديد من المهام الكبرى، ومنها:
- رئيس محكمة الاستئنافات الشرعية النهائية، وقاضيا لقضاة[8] إريتريا، فور عودته من مصر.
- مفتي الديار الإريترية في عام 1940.[9]
- مفتش كافة المحاكم الشرعية في يونيو 1940م، وقد كلفه الحاكم العام بتفتيش 93 محكمة في إريتريا وأثيوبيا، وقد شرع في ذلك ولكنه لم يتمه بسبب قيام الحرب.
- رئيس كافة أوقاف إريتريا في نوفمبر 1943م.
- رئيس جبهة العلماء الإريترية، بعد أن سعى إلى إنشائها في مايو 1952م.
وقد كان سماحته أول من تولى هذه المهام، وأول من وضع لبناتها وأرسى قواعدها.
وبالإضافة إلى ذلك، فقد عين سماحة المفتي قاضيا في محكمة إريتريا الكبرى النهائية -المكونة من ثلاثة قضاة[10]– في سبتمبر 1952م، بعد القرار الفيدرالي. وقد كان لهذه المحكمة دور مهم في الحفاظ على استقلالية القضاء الوطني، والدفاع عن الحقوق الدستورية، ونقض الكثير من قرارات السلطة التنفيذية المخالفة للدستور.
أما منجزاته فقد ورد ذكر بعضها في ثنايا السطور السابقة، وعلى الإجمال فإن حياته رحمه الله تعالى حفلت بمختلف الأنشطة في الشؤون الدينية الإسلامية: تدريسا، وتأليفا، ونشرا، وتأسيسا، ومنافحة. وقد كان في طليعة رجال النهضة والإصلاح في إريتريا، حيث أيقظ الشعب المسلم من سباته العميق؛ فتأسست المعاهد، والمدارس، والمكتبات، والمساجد، والجمعيات بإرشاداته. وفي عهده فقط بني أكثر من ثلاثين مسجدا في أنحاء القطر، وأنشئت العديد من المؤسسات.
أصلح المحاكم الشرعية ونظمها بوضع لوائح وقوانين تسير عليها، ودعا إلى مؤتمر للقضاة، فانعقد مرتين وأصدر توصيات مهمة. ووضع سماحته أيضا نظام الامتحان للمرشحين للقضاء لاختيار أهل الكفاءة؛ وأوجد المحاماة الشرعية، ودافع عن استقلالية القضاء، وحارب الرشوة، ورفض تعيين من أرادت الدولة إقحامهم في القضاء ممن لا يملكون المؤهلات الشرعية.
نظم الأوقاف، ووضع لائحته، وجمع حججه، وأنشأ لجانه الفرعية في أنحاء القطر، ونشر الإحصائيات عن المساجد، والمعاهد، والكتاتيب. أسس جبهة العلماء لتقوم بمهمة الدعوة، وحارب العادات والتقاليد المخالفة لروح الشريعة وتعاليم الإسلام.
كافح خطط المستعمرين، وأعداء الإسلام، وعرقل مساعيهم بشجاعة نادرة. وحارب بين المسلمين المذهبية، والطائفية، والقبلية، ووحد صفوفهم، ونبههم إلى حقوقهم الشرعية والقومية، وحارب الفتنة الطائفية التي كان يزرعها أعداء الوطن بين الحين والآخر. وقد خدم اللغة العربية في غمرة الأحداث السياسية التي حاقت بالبلاد، ودافع عنها دفاعا مجيدا يسجله له التاريخ بأحرف من نور. وكان بالجملة نجما ساطعا، وعلما بارزا، ومصلحا متميزا في الديار الإريترية؛ خلف تراثا عظيما من مؤلفات قيمة، وترك أثرا محمودا، وذكرا حسنا، يكون نبراسا وأسوة لمن بعده على مدى التاريخ وامتداد الزمان.
العهود التي عاصرها بعد عودته إلى وطنه
عاصر سماحة المفتي تقلبات سياسية كبيرة، وتعامل مع حكومات مختلفة، ودوائر ذات أطماع وتوجهات متضاربة. وقد زامن سماحته أربعة عهود سياسية وهي:
- العهد الإيطالي (1940 – 1941)[11]
- العهد البريطاني (1941- 1952)
- العهد الفيدرالي (1952 – 1962)
- عهد الإمبراطور الإثيوبي هيلى سيلاسى (1969 – 1962) [12]
كانت العهود التي عاصرها سماحته حافلة بالأحداث والفتن التي عصفت بالبلد وجعلته في مهب الريح. وكان رحمه الله يتابع عن كثب التطورات السياسية والدستورية، وكان على دراية تامة بها، وقد دون بتفصيل أحداث هذه العهود وملاحظاته عليها في عدد من كتاباته. وقد وصف في مؤلفه فترة ولايته قائلا:
“وقد شاءت إرادة الله أن تكون أيام ولايتي أيام نزاع وعراك ودسائس قدمت مع طلائع الحرب العالمية الثانية، وتبعتها معارك الدول في مصير مستعمرات إيطاليا التي منها إرتريا، وولدت الأحزاب السياسية التي تقمص الاستعمار تحت ثوب بعضها، وحارب من وراء ستارها الشعب الإسلامي، ودينه، ولغته العربية، وكيانه العمومي؛ وشعاعه قد أصابني كثيرا، وتحملت منه ما أثقل كاهلي، في سبيل الدفاع عن الحق بمختلف الطرق المباشرة وغيرها…”
وفي فترة تقرير مصير إريتريا في العهد البريطاني، لم ينضوي سماحته في أي حزب سياسي، وإن كان له ميل واضح لحزب الرابطة الإسلامية، الذي كان شقيقه الأكبر الحاج سليمان أحمد عمر من أبرز مؤسسيه. وكان لسماحته دور مباشر وغير مباشر في مساندة الرابطة وتوجيهها ودعمها بالمقالات، والبحوث التاريخية والقانونية والشرعية. وفي محاوراته ولقاءاته مع رجال السياسة، والإدارة الحكومية، ومندوبي الأمم المتحدة، كان يطالب بإلحاح أن تحترم إرادة وحقوق الشعب الإريتري، وأن تقدم على أي اعتبار آخر. وبعد صدور قرار الأمم المتحدة بإقامة الاتحاد الفيدرالي بين إريتريا وإثيوبيا، ظل مطالبا المسؤوليين على كافة المستويات باحترام القرار الفيدرالي، والدستور الإريتري، وتطبيق نصوصهما كاملة، وحذر مرار من مغبة التلاعب بهما.
وبعد الإلغاء التعسفي للقرار الفيدرالي، في عهد الإمبراطور هيلى سلاسى – المعروف بتوجهه الطائفي –، تعرض سماحته لضغوط ومضايقات كثيرة، ولكنه ظل مصرا ومثابرا على المطالبة باحترام حقوق المسلمين، ومعاملتهم بالمساواة والعدل كأتباع سائر الملل الأخرى. واحتج بشدة على تدخلات الحكومة في شؤون الإدارة الدينية، واعتقالها للعلماء والمشايخ بدون مبرر، واعترض بقوة على قتل الأبرياء، وتدمير القرى الإسلامية، وطالب بإيقافها فورا. ورغم الترغيب والترهيب، فإنه رفض بإلحاح مطالب الدولة بإصدار فتاوى تجرم الثورة الإرترية وتعتبرالفدائيين “خارجين على القانون، وملحدين للأديان، وتحرم الصلاة عليهم ودفنهم، وتجب محاربتهم ومحاربة من يعاونهم.” وبدلا من ذلك، طالب محاورتهم، والنظر في مطالبهم وحلها على أساس من العدل والإنصاف.
دخل المستشفى بعد مرض ظل يعاوده، وظل يعالج منه حتى نفذ قضاء الله بقبض روحه الطاهرة في مساء يوم الأربعاء 25 يونيو 1969م. وقد ثارت شبهات في سبب وفاته في المستشفى، ويعلم الله حقيقة الأمر. تم دفنه في ظهيرة يوم الخميس 26 يونيو 1969م في مقبرة حزحز بأسمرة، بحضور جمع غفير توافد من كل أنحاء إريتريا، يعمه الحزن الشديد والأسى العميق على فقد أعظم شخصية عرفها التاريخ الإريتري. وقد ألقى عدد من الحضور كلمات أبرزو فيها تاريخه ودوره، وعبروا عن ألمهم على فراقه. وقد خلف من الذرية خمسة: ثلاث بنات ( فاطمة، وسعاد، وزهرة )، وولدين (إسماعيل، وسالم.[13]
تميزت حياته الشخصية بالحركة، والنشاط، والعمل بدون كلل. وكان حليفا للبحث والمطالعة، والكتابة والتأليف. وقد أثرت كثرة الكتابة على يده اليمنى، فتعود الكتابة باليسرى. وكان زاهدا، ورعا، حكيما، حليما، متسامحا إلى أبعد الحدود في كل ما يتعلق بشخصه، وأسدا هصورا في الدفاع عن الحق. وكان خطيبا مفوها، يلهب مشاعر السامعين، ويهز قلوبهم بما حباه الله من فصاحة اللسان، وقوة في البيان، وقدرة على الأداء. وكانت له شخصية قوية، وطلعة بهية، تملأ العيون مهابة وتقديرا، وقد جعل الله له القبول في الأرض فاحبه القريب والبعيد. حظي باحترام وتقدير عقلاء مسيحيي إريتريا لمواقفه الوطنية، ولدعوته للتسامح والتعايش السلمي على أساس من العدل والإنصاف.
كان يقول الشعر وإن لم يكن مبرزاً فيه، غلب على شعره الجانب الوطني والوجداني. وكان بالإضافة إلى طول باعه في العلوم الشرعية، مبرزا في علم التاريخ والأنساب، وله كتابات وتحقيقات عدة في هذا المجال. وكان على إطلاع واسع ودراية تامة بالدساتير، والنظم، والقوانين المدنية، ويتابع عن كثب الصحف المحلية والأخبار العالمية. وكان شغوفا بالخروج إلى الأماكن الخلوية المفتوحة، والتجول حول الجبال، والمشي في وسط الغابات؛ ورغم تحذيره من خطر الاعتداء عليه أثناء تجواله خارج المدينة، إلا أنه لازم هذه العادة حتى توفاه الله. وكلما سنحت له الفرصة، كان يسافر إلى ميناء مصوع للسباحة في شواطئها. وكان مجيدا لإطلاق الرصاص، حيث كان في حوزته سلاح مرخص، ليحمي نفسه من أي اعتداء.
دار الإفتاء من بعد وفاة سماحة الشيخ إبراهيم المختار
إن وجود مفتي لإريتريا وحدها دون غيرها، والتي كانت تعتبر تحت حكم الإمبراطور هيلى سلاسى إحدى محافظات إثيوبيا آنذاك، كان يرمز إلى استقلال وتميز إريتريا. ولم تجري العادة عند مسلمي إثيوبيا (أو لم يسمح لهم) بتعيين مفتي للبلاد. فسعى زبانية الإمبراطور لطمس هذا الرمز (مفتي إريتريا) بالحد من اختصاصاته، ومطاردته، أو بالتحايل -كتعيينه مستشارا للحاكم العام للشؤون الدينية-، ولكن قوة شخصية سماحة المفتي، وشعبيته الجارفة منعتهم من ذلك. فلما رحل عن الدنيا تنفسوا الصعداء وحققوا ما كانوا يسعون إليه، ولذلك لما سعى المسلمون إلى اختيار خلف له ورشحوا من أجل ذلك عدة شخصيات، هددهم الحاكم العام الإثيوبي بالحبس وطردهم بكل إهانة، فظل المنصب شاغرا لأكثر من أربعة وعشرين عاما، حتى أذن الله باستقلال إريتريا في عام 1992، فطالب المسلمون بتعيين مفتي لهم، فوعدت الحكومة الإريترية المؤقتة آنذاك بتحقيق ذلك المطلب، ثم وافقت على تعيين مرشحهم العلامة الشيخ الأمين عثمان الأمين مفتيا للديار الإرترية في 21/8/1992م.
كان سماحة المفتي كثير الكتابة والتأليف، رغم كثرة مهامه ومشاغله، ورغم اعتلال صحته. وقد تنوعت كتاباته وتعددت في مجالات شتى ومناحي مختلفة. ومقالاته في الصحف تعد بالمئات، وقد كتب بعضها ونشرها بأسماء مستعارة (وبالأخص المقالات السياسية). وقد طبع سماحته بعض رسائله، ونشربعض فصول من كتبه في الصحف المحلية، ولكن الظرف المحلي لم يتح له طبع معظم كتبه، ولا تزال معظمها غير مطبوعة. تجاوزت كتب المفتي ورسائله على الثمانين، وفيما يلي بعضها (كلها لاتزال مخطوطة):
الكتب الشرعية والفقهية:
- إرشاد المبتدئ على مقدمة أبي الليث السمرقندي ويليه إعانة المستهدي في تخريج أحاديث أبي الليث السمرقندي
- أسنى الغايات شرح تحفة الثقات في محاسن التوقفات -منظومة-
- بغية الرائد فيما لذ وطاب من الفوائد -ثلاث مجلدات-
- مفيد المفتي والسائل إلى مختلف المسائل -ثلاث مجلدات-
- الدرة البهية في حل الرموز الفقهية
- الحديقة الندية في اصطلاحات العلوم الشرعية
- المطالب العالية في أحكام الفطرة والأضحية والزكاة المالية
الكتب التاريخية والقومية
- دحض الوشاة عن اللغة العربية في إرتريا والحبشة
- لفت النظر إلى علماء الإسلام في إرتريا في القرن الرابع عشر
- الحاوي لأخبار الشعب السيهاوي -مجلدين-
- الجامع لأخبار جزيرة باضع
- إزالة الغواشي عن أخبار النجاشي
- جلاء النظر بأخبار رواق الزيالعة ثم الجبرتي بالأزهر
- محو الغشاء عن ملوك الإسلام في الحبشة
- الثريا بأخبار أوقاف إرتريا الإسلامية
- القنبرة في تاريخ المركز الإسلامي بأسمرة
كان لرحيل سماحة المفتي المفاجئ وقع شديد على الجماهير التي أحبته، ووثقت به، وتلقت العلم منه على مدار ثلاثة عقود. وقد انبرت الأقلام، شعرا ونثرا، لتعبر عن ألم فراق سماحته، وفيما يلي نبذ منها:
أشعار:
وداع وأسى
لفضيلة الأستاذ الشيخ عبد القادر إبراهيم [14]
من للديار لها يا مفتي الـــــدار ودعتنا فجأة من غير إنـــــذار
فأنت كنت لنا ثوبا يزيننـــــا ومن ترى اليوم يكسي جسمنا العاري
فأنت كنت لنا حصنا نلوذ بـــه في كل ضائقة تأتي بأخطـــــار
قد كنت دوما لنا نورا يضيء لنــا في ظلمة الليل أو في زحمة الساري
تركت فينا فراغا ليس يملــــؤه فرد من الناس يالهفي لمختــار
كم من نفوس بكت في يوم رحلتكـم وكم ضلوع كوتها حرقة النــــار
وكم دموع ترى في العين قد جمـدت وليتها ذرفت دمعا بمــــــدرار
يبكون فيك معاني كنت تحملهـــا وعزة النفس والإخلاص للبـــاري
يبكون فيك شجاعا غير مكـــترث في الحق لا يرتضي إلا بإظـــهار
أين الكنوز التي كنت ترسلــــها إلى الجرائد حتى يهتدي القـــاري
أين المقالات في الأحكام ترشــدنا بل أين صوتك يشدينا بإبـــــهار
من للمنابر يشدوا فوق منبرهـــا من للمساجد يرعاها بإكبــــــار
ومن يصون كتاب الله من عــبث ومن يدافع عنه غير خــــــوار
ومن يغار على دين الحنيفية من يذود عن حوضها شهما بإصـــرار
مضى الفقيد يحامي عن عقيدتــه كونوا حملة الهدى من بعد مختـــار
ولا تكونوا ضعافا في إرادتكـــم والله ينصركم في كل أطـــــوار
الله نسأل أن يكرم وفادتـــــه يدخله من فضله جنات أبـــــرار
دمعة الإسلام على فقيد الإسلام
للأستاذ محمد عمر با رحيم
مفتي الديار فمن للدار يعليهـــا بعد الرحيل إذ قد مات بانيهــــا
يالهف نفسي على قوم تركتهمـوا حيرى القلوب وهول الخطب يشجيها
من للفتاوى إذا نادى الحيارى لهـا من للعلوم إذا نادى مناديهـــــا
من للتواريخ بعدك يا أخا همـــم خلفت مأثرة الله يبقيهــــــــا
نحن المصابون في عز ومكرمـة نحن المصابون في مصباح ناديهــا
نادى النعي بموتك ياله نبــــأ أبكى القلوب على المختار مفتيهـــا
قد كنت حصنا لدين الله في زمـن عز على أمة إحياء ماضيهـــــا
وفقت بين قلوب كان يفرقهـــا جهل أضل وعلم لا يرقيهــــــا
فهنيأ فأنت على التاريخ مفخــرة مذكورة في سجل العز بانيهـــــا
ولترحل الروح بالإجلال ذاهبــة في جنة الخلد عند الله باريهـــــا
كلمات التأبين:
وقد ألقى عقب صلاة الجنازة جمع من العلماء والوجهاء كلمات ذكروا فيها سيرة سماحة المفتي وجهوده الإصلاحية؛ ومنهم فضيلة المشايخ والأساتذة :محمد صالح حامد، وعبد القادر إبراهيم، وأحمد إبراهيم، وسليمان الدين أحمد، وأحمد سرور. وفيما يلي بعض المقتطفات من هذه الكلمات:
كلمة الأستاذ أحمد سرور[15]
“لقد كان رحمه الله علما في شخصيته، شهما في إنسانيته، شجاعا في إقدامه، متفانيا في إخلاصه لدينه، فاعلا للخيرات …… فمن للمساجد والمعاهد والعلم بعدك يارائد العلماء، فلا حول ولا قوة إلا بالله. أيها الراحل الكريم، إن الأمة إذ تودعك باكية إنما تبكي فيك العلم الذي كنت حامل مشعله، وتبكي فيك الشجاعة التي كنت عمادها، وتبكي شخصيتك الفذة التي كانت عنوان العلم ومهبط الآمال. فمن في الأمة لا يذكر غيرتك الدينية، ومواقفك المشرفة في الذود عن حمى الدين. إن أعمار الرجال لاتقاس بالأيام والسنيين بل بما قدمت من أعمال جليلة؛ فليبكك العلم الذي جس أواره، ولتبكك الشهامة التي انصدع ركنها، وليبكك الإحسان الذي تقلص ظله، فلا حول ولا قوة إلا بالله”
كلمة فضيلة الشيخ محمد صالح حامد
“لعمرك ما الرزية فقد مال ولا فرس يموت ولا بعـير
ولـكن الـرزيـة فقــد حـــر يموت بموتـه خلـق كثـــير
……………………….
أيها السادة:
لست في مقام أعظكم فيه، وإنما الموقف نفسه هو الذي يعظنا اليوم. فنحن نودع رجلا من أبر رجال الإسلام في ديارنا، خدم الرسالة الإسلامية والملة المحمدية قرابة أربعين عاما، حيث ظل يفتي المسلمين ويوجههم إلى ما فيه صلاحهم في الدنيا والآخرة. وقد كان رحمه الله رمزا للخلق الطيب، والعلم، والإخلاص، والحياء، والاحترام… وبوجوده حيا كان يملأ فراغا كبيرا يعتز به المسلمون .. وقد كان ملتقى و معقد آمالهم. ما أعظم مصيبتنا فيه … اختاره الله لجواره في وقت أحوج ما تكون الأمة إليه … فإنا لله وإنا إليه راجعون.”
مقتطفات من وصف موكب جنازة سماحته، نقلا عن جريدة “الوحدة” اليومية
“وما أن أعلن نبأ وفاته حتى عم الحزن والأسى جميع الأوساط لهذه الفاجعة الكبرى، ولم تمر ثواني معدودة لإعلان نبأ هذا الخطب الجلل حتى تناقلته أسلاك البرق والهاتف وطارت به إلى كافة أنحاء المحافظة، في الوقت الذي كانت جموع الناس من كافة الطبقات والملل والنحل تتدفق إلى دار سماحته وقد ارتسم الأسى والحزن على محيا هذه الجموع لفقدانها إمامها الورع، وفقيهها الزاهر، ومرشدها الديني الشجاع الذي لايخاف في الله لومة لائم. أجل ظلت هذه الجموع تتدفق إلى دار سماحته لتسكب الدموع السخينة التي لم تستطع حبسها على الرغم من وصية سماحته التي طلب فيها من أبنائه المسلمين عدم البكاء والنياح عليه في حالة وفاته؛ وبعد أن ظلت حشود المسلمين والمعزين الآخرين تتلاطم كالبحر الزاخر في فناء سماحته الكائن بشارع “ليوناردوا دافنتشي” وقرب وقت نقل جثمانه الطاهر إلى مقره الأخير، أخذ يستبد الأسى بهذه الجموع الزاخرة الحزينة، وفي الساعة الثانية عشر ظهرا تحرك موكب الجنازة من دار سماحته في سيارة محاطة بأكاليل الزهور، والبوارق الصوفية، وقطعة من حرس البوليس، وهم يسيرون في خطوات حزينة؛ بينما سار خلف النعش في الصف الأول أصحاب الفضيلة أعضاء جبهة العلماء، والرسميون، ورجال القضاء، وحشود زاخرة من مختلف طبقات الأمة. وقد سار هذا الموكب الرهيب يحف به الوقار والخشوع مخترقا أهم الشوارع متوجها إلى المقبرة الإسلامية بحزحز بأسمرة التي كانت هي الأخرى مكتظة من جميع جوانبها ومساحاتها بالألوف المؤلفة من المشيعين والوفود التي قدمت من جميع أنحاء محافظة إرتريا، وكان قد سبق بالحضور إلى مكان المقبرة كبار الرسميين …….. وجميع قناصل الدول الأجنبية في أسمرة، ورؤساء مختلف الطوائف الدينية، ورؤساء الجاليات الأجنبية، والقضاة، والمحامون، وكبار رجال الأعمال وغيرهم؛ وأخيرا احتشدت جموع المسلمين الزاخرة في الساحة الكبرى الواقعة أمام المدرسة الإسلامية[16] للصلاة على سماحة فقيد الإسلام الراحل، وقد أم المصلين فضيلة الشيخ إدريس سليمان القاضي بمحكمة الإستئنافات، وبعد الصلاة وقف أمام المايكرفون المؤبنون لسماحته…….. وقد تحدث الجميع ذاكرين مكانة سماحته في البلاد وخدماته الدينية وإرشاده للمسلمين بكل نزاهة وإخلاص وأمانة للدين، كما تحدثوا عن زهده وصلاحه وعفته وشجاعته وتفانيه في خدمة الإسلام والمسلمين طيلة حياته الحافلة بكل ما يرضي الله ورسوله…. هذا وبعد انتهاء مراسم الدفن تقبل المسلمون تعازي المشيعين من مختلف الطوائف والملل ثم أقبلوا يعزون بعضهم البعض في وفاة فقيد الإسلام الراحل سماحة الشيخ إبراهيم المختار.”
العدد 1606 السنة السابعة، 12 ربيع الثاني 1389هـ الموافق 27 يونيو 1969م.
رحم الله سماحة الشيخ إبراهيم المختار رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وجزاه خير الجزاء.
[1] كتب سماحة الشيخ عن سيرته الذاتية في عدة كتب، منها: “سلوة الحبايب في رحلة الطالب” -غير مطبوع-
[2] من تجار أم درمان واسمه: عبدالعال أحمد الجعفري.
[3] غادر سماحة المفتي موطنه سرا بصحبة رفيقه أحمد يوسف. وكان أقارب الشيخ يستعدون لتزويجه بعد أن خطبوا له إحدى الفتيات؛ وكان الشيخ منذ فترة مبكرة عازما على الرحلة في طلب العلم، ولكنه قرر البقاء بجوار والده، ليعتني به، وبعد وفاة والده قرر الرحيل سرا وفي أسرع وقت حتى لا يمنعه أقاربه من السفر. وبعد وصول سماحة الشيخ إلى أم درمان والتحاقه مع زميله بالمعهد، قرر رفيقه العودة إلى الوطن، فبقي المفتي بدون رفيق حتى لحق به اثنان من أقاربه ممن خرجوا في طلب العلم، وهما القاضي إدريس حسين سليمان، والشيخ سليمان الدين أحمد سليمان.
[4] أثناء فترة العلاج، أقام الشيخ في مدينة عدي قيح، في منزل شقيقه الأكبر، الحاج سليمان؛ وقد مر في طريقه إلى عدي قيح بمدينة مصوع وأسمرة-في الذهاب والعودة-، والتقى ببعض أعيانهما. ورغم اعتلال صحته، فإن سماحته في أثناء علاجه في إريتريا لم ينقطع عن نشاطه العلمي، حيث كان يلقي الدروس لطلبة العلم، ويجيب على الاستفسارات الشرعية، وقد ألف في هذه الأثناء عدة رسائل، منها:
- الكلمات الطيبات في تحريم هدية العمال والقضاة
- بغية المصلي في جواز الصلاة في النعل
- تحفة الإخوان فيما يكون فيه السكوت كالبيان
- رفع الشقاق في أن لفظ الحرام المطلق عن الإضافة والعرف لا يقع به الطلاق
[5] من هذه المكتبات (كما ذكر في كتبه): دار الكتب المصرية، ومكتبة التيمورية، ومكتبة السيد عمر مكرم، ومكتبة قولة، ومكتبة الشنقيطي، ومكتبة أحمد زكي، ومكتبة مصطفى كامل باشا، ومكتبة الأزهر، ومكتبة رواق الأتراك والمغاربة.
[6] الشهادة العالمية كانت أعلى شهادة يصبح بها الطالب عالما أزهريا، ونظرا لشأنها الكبير، فإن الملك كان هو الذي يوقع عليها بنفسه في عهد الملكية.
[7] كانت الحكومة الإيطالية -عبر سفارتها في القاهرة- تقدم بعض الخدمات لطلبة الأزهر القادمين من إريتريا، ولكنها كانت تراقبهم وتتابعهم عبر جواسيسها؛ وقد توقف سماحته عن حضور محاضرات جمعية الشبان المسلمين بعد حظر السفارة على الإريتريين من حضور أنشطتها.
[8] بسعي من سماحة المفتي تم فصل منصب قاضي القضاة عن منصب المفتي، وبناء عليه تخلى سماحته عن هذا المنصب، فتولاه القاضي إدريس حسين سليمان.
[9] وكان هذا التعيين بناء على طلب من أعيان البلد. وهو أول مفتي يعين رسميا لإريتريا مشرفا على جميع الشؤون الدينية، بخلاف من تلقب بالمفتي ممن سبقوه حيث كان ينسب إما إلى قومه -كمفتي قبيلة منفرى-، أو إلى جهة -كمفتي مصوع-.
[10] وكان رئيس هذه المحكمة بريطاني يدعى جيمس شرر -James Shearer-، ومعه إيطالي آخر يدعى بتروني. ونظرا لما كانت عليه المحكمة من استقلالية في قراراتها، فإن السلطة التنفيذية والحكومة الإثيوبية سعت لتقويضها واحتواءها عبر إحلال شخصيات تثق بهم، وقد تم لها ذلك بعد مغادرة جيمس شرر، وبعد خروج سماحة الشيخ منها.
[11] أدرك الشيخ الإيطاليين، بعد عودته من مصر، في آخر أعوامهم؛ وقد بدأ حكمهم لإريتريا في عام 1885 بعد احتلالهم لمصوع، وخرجوا منها منهزمين في عام 1944.
[12] انتهى حكم هيلى سلاسى بعد خمس سنوات من وفاة المفتي إثر انقلاب عام 1974م.
[13] سار الشيخ سالم على خطى والده، فدرس وتخرج من الأزهر، وتولى شؤون الإفتاء بالنيابة في إريتريا في عام 2017م، ثم عين مفتيا للبلاد في شهر يوليو عام 2021.
[14] الأستاذ عبد القادر، ولد عام 1929م، درس في جامعة القاهرة بمصر وتخرج من قسم دار العلوم، ورجع إلى إريتريا عام 1965م. عمل مدرسا ومديرا في معهد مصوع، ثم انتقل إلى مدرسة الجالية العربية بأسمرة مدرسا؛ توفي في أوائل السبعينيات في أسمرة. يقول سماحة المفتي في معرض ذكره للأستاذ عبد القادر في مؤلفه عن علماء إرتريا: “اشتغل مدرسا في معهد مصوع ثم صار شيخا له، ونظم إدارته، واشتغل فيه بإخلاص في تثقيف أبنائه؛ وفي جانب عمله في المعهد كان يقوم بالوعظ والإرشاد والدروس الخاصة للشبان، وقد أحبه الجميع … واستمر في الوعظ في المساجد وكانت له طريقة تجذب قلوب السامعين.”
[15] شاعر وكاتب بارز، تولى إدارة مدرسة الجالية العربية، وكان عضوا بارزا في لجنة الأوقاف بأسمرة.
[16] كانت تعرف بالمدرسة الإسلامية الخيرية، تم إنشاؤها بجهود المحسنين، وتمت مصادرتها من قبل الحكومة وتغيير اسمها فيما بعد.