موقف المفتي من مسيحيي أرتريا
عاش سماحة المفتي فترة شبابه في مناطق إسلامية أرترية تقطنها في الأغلب القبائل المسلمة ، ولم يكن لسماحته في هذه الفترة من عمره إحتكاك كبير بالمسيحيين الأرتريين ؛ ولذلك لم يكن يتحدث اللغة التيجرينية – وهي اللغة التي كان يتحدث بها غالبية المسيحيين. وبعد إتمام دراسته الأزهرية بمصر ، عاد سماحة المفتي إلى أرتريا واستقر في عاصمة البلاد ، مدينة أسمرة. وكانت مدينة أسمرة مدينة تتعدد فيها الثقافات ، والديانات ، وتعيش فيها طوائف مختلفة ومتعددة. وكان أغلب سكانها من المسلمين والمسحيين الأرثوذكس ؛ بجانب أقليات كاثوليكية وبروتستنتينية ، ومجموعات يهودية وهندوسية صغيرة. وبجانب الوطنيين كانت هناك جاليات عربية يمنية وأوروبية إيطالية كبيرة ، مع جاليات صغيرة من جنسيات متعددة. وكان سماحة المفتي بطبيعته الموسوعية على دراية واسعة بهذه المذاهب ، والطوائف ، والمجموعات المختلفة ، ومطلعا على مبادئها ، ومتابعا لشؤونها وأحوالها. وقد تعامل سماحته مع هذا التعدد الديني – وبالأخص الإسلامي المسيحي – وفق مبادئ وأسس دعا إليها منذ أول يوم من وصوله والتزم بها طوال حياته. وأهم هذه المبادئ يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
التسامح والإحترام المتبادل :
دعى سماحة المفتي إلى التسامح والتعاون بين أتباع الديانات المختلفة في أكثر من مناسبة وفي أكثر من لقاء ، فقد قال في كلمة ألقاها في حفل إفتتاح مدرسة عبدالله قنافربمدينة مندفرا في ديسمبر 1946م مخاطبا عموم الحاضرين : “فكونوا كلكم يدا واحدة ، وقلبا واحدا ، بدون تفرقة بين مسلم ومسيحي ؛ لأن هناء الأمة وانتعاشها في الوفاق ، وشقاؤها وخمودها في الشقاق. فأنتم إخوان كلكم ، مآثر أبنائكم فخر لجميعكم ، والتعليم أمر مشترك بينكم…..’. وقال في مؤتمر حفل السلام بين الأحزاب السياسية الأرترية المنعقد في 21 ديسمبر 1950م : “الأديان السماوية عموما تدعوا الناس إلى الألفة والأخوة والتعاون على البر والتقوى ، وكل أمة أقلتها أرض واحدة وأظلتها سماء واحدة إن لم يكن رائدها الألفة والمحبة والإخلاص في العمل المثمر ، فنهايتها تكون غير محمودة. واختلاف الآراء في المصالح المشتركة ، وتمسك كل طائفة بمبدئها أمر معتاد بين بني البشر عموما ، وتلك سنة الله في خلقه ، وسلوك سبيل ذلك لا يعد جريمة ؛ وكم في العالم البشري من أحزاب مختلفة المبادئ متفقة الشعور، والجريمة هي في التقاطع ، والتنابذ ، والإعتداءات ، والاستمرار فيها إلى النهاية”
المساوات والعدل :
أكد سماحة المفتي على أهمية المساوات ، والعدل بين جميع المواطنين ، وعدم التمييز بينهم لاعتبارات طائفية. وهذا ما كان يؤكد عليه سماحته في لقاءاته ومحاوراته مع المسؤولين ورجال الدولة. وفي لقائه الأول برئيس الحكومة الأرترية – تدلا بيروا – قال له بعد أن هنأه بالفوز بالرئاسة: “وأوصيك بالمحافظة على حقوق أرتريا ، وعلى توحيد صفوف أبنائها ، والعدل بينهم“. وأكد هذا المعني في لقائه مع ثاني رئيس للحكومة الأرترية– أسفها ولد ميكائيل – حيث قال له: “وإني لن أتأخر عن تقديم النصائح والإرشادات على قدر إستطاعتي ، والمدار على العمل ، فإن ظهر عدلكم بين الناس جميعا ستجدون التأييد الكامل من الشعب”. وكرر هذا المعني للحاكم أسراتى كاسا في أول لقاء له حيث أكد له ضرورة المساوات بين الجميع وعدم التمييز.
حرية التدين:
دعا سماحة المفتي إلى توفير حرية التدين للجميع ، واعتبر ذلك حقا من الحقوق التي ينبغي للدولة والمجتمع توفيرها وحمايتها. وقد أكد سماحته هذا المعنى في أكثر من رسالة وأكثر من موقف. ففي خطابه – رقم 10925- الموجه إلى المطران الأرثوذكسي في قضية إمرأة مسيحية دخلت في الإسلام وتعرضت للسجن بسبب ذلك بأمر المطران ، يقول سماحة المفتي : “إن إعتناق الإنسان الراشد أي دين من الأديان هو حق من حقوقه وحده ، بنص مادة (7) فقرة (د) من القرار الفيدرالي للأمم المتحدة، ومادة (1) و (22) فقرة (ث) من الدستور الأرتري” …………. ” “وأعتقد أنكم تعلمون أنه لم يحصل من جانب المسلمين مثل هذا على الداخلين منهم في الدين المسيحي عملا بقانون حقوق الإنسان” وفي خطابه الإحتجاجي على سجن الشيخ محمد صالح –خطاب رقم 13316– يقول : “حرية الدين مكفولة قانونيا، وتحقيقها يحتاج إلى حماية وصيانة القائمين بأمر الدين من الإهانة والتخويف”
وقد ظل سماحته وفيا لهذه المبادئ إلى أخر لحظات من حياته ، وحتى في وصية وفاته أكد على المسلمين أهمية تعاونهم مع شركائهم في الوطن ممن يخالفونهم في الدين. وكان سماحته سباقا في إطفاء فتيل الفتن والحزازات الطائفية ، ولذلك سافر إلى مناطق مختلفة من أرتريا ، وتجول في أحياء أسمرة بصحبة المطران من أجل إحلال السلام ، والوفاق ، والتعايش السلمي.
ورغم هذه المبادئ السامية التي كان سماحته يدعوا إليها باستمرار ، إلا أنه كان يتعامل مع سلطة تتظاهر باحترام هذه المبادئ ، وتقوم بانتهاكها عمليا بتكرس التفرقة الدينية ، وممارسة الإجحاف في حق المسلمين ، والنظرإليهم بعين الريبة ، ومعاملتهم معاملة دونية. وكان سماحته أيضا يتعامل مع كنيسة يرأسها مطران متابع ومؤيد للسلطة في سياساتها وتوجهاتها الطائفية. ولذلك فإن سماحته لم يتردد في رفع صوته بالنكير والإحتجاج على هذا التمييز عبر الخطابات ، والمقالات ، واللقاءات المباشرة. وفيما يلي بعضا من هذه الممارسات التي إحتج عليها سماحة المفتي.
1- تجاهل المناسبات الإسلامية :
دأبت الحكومات الإيطالية والبريطانية التي حكمت أرتريا على الإعتراف بالأعياد الإسلامية والقبطية والمساوات بينهما. ولكن الأمر تغير مع قدوم العهد الفيدرالي ، حيث تم إعتماد المرسوم الإمبراطوري – إعلان رقم 9 لعام 1934م (بالتقويم الحبشي) – وهو مرسوم يعترف بالأعياد القبطية ، ويهمل تماما الأعياد الإسلامية ؛ فقام سماحته بالإحتجاج على هذا وخاطب المسؤوليين من رجال الدولة ونبههم إلى الإجحاف اللاحق على المسلمين من هذا المرسوم. وكان هذا التمييز سببا في إشتعال ثورة لجان المساجد في أسمرة ، وما تلا ذلك من مقاطعات وإحتجاجات متعددة.
2- التضييق على المؤسسات الإسلامية:
المؤسسات الإسلامية كانت تعتمد في الغالب على مواردها الخاصة – التبرعات والأوقاف – ماعدا القضاء الشرعي ودار الإفتاء. وكانت معظم المؤسسات الإسلامية تعاني من قلة الموارد وضعف المصادر. وقد سلكت الحكومة الوطنية والإثيوبية مسلكا فيه تمييز واضح بين المؤسسات القبطية والمؤسسات الإسلامية. فقد منحت المؤسسات القبطية الحرية في تصريف أمورها ، ويسرت لها الوسائل التي تحتاج إليها لأداء مهامها ، بينما قامت بتقييد المؤسسات الإسلامية ، والتضييق عليها ، والتدخل السافر في شؤونها. ولم تكتفي الدولة بهذا بل أغدقت الأموال على المؤسسات والهيئات الكنسية. ففي ميزانية عام 1959م إلى عام 1960م ، إعتمدت الدولة مبلغ عشرون ألف دولار لمجالس الإكليروس الخمسة المختصة بالكنائس ، دون إعتماد شيئ لنظيراتها الإسلامية – لجان المساجد. فكتب سماحته خطابا (رقم 10900) موجها إلى رئيس الحكومة محتجا على هذا التمييز ، حيث قال فيه: “إني أطلب الحق المذكور لمجالس المساجد عملا بالمساواة أمام القانون الذي هو جزء من حقوق الإنسان المنصوص عليه في مادة 7 فقرة 1 من القانون الفيدرالي ومادة 22 فقرة 1 من الدستور الأرتري ، واعتمادا أيضا على مادة 27 من الدستور الأرتري التي تنص بأنه لا يجوز إتخاذ اجراء له طابع تمييز يسئ إلى أي دين في أرتريا. وبدون شك فإن إهمال مجالس المساجد مع اعتبارمجالس الكنائس جزءا من هيكل الدولة سيسئ إلى الدين الإسلامي الذي هو دين أغلبية السكان ويعود عليه بضرر عظيم في مستقبل الأيام ، وتلافيا لذلك أكرر إليكم رجائي طلب المساواة في الموضوع” . وقد أكد سماحته في خطابه أنه لا إعتراض له على إعتماد هذه الميزانية للكنائس ، وإنما إعتراضه هو في حصرها على الكنائس وحدها.
3-إضطهاد العلماء :
كان رجال الدين المسيحي يعاملون معاملة محترمة ، وتخصص لهم أماكن الصدارة في المناسبات العامة ، وتمنح لهم الهبات ، بينما كان علماء الإسلام يهانون ، ويضيق عليهم ، ولا تراعى لهم حرمة. وقد سجن عدد منهم ، وطرد أخرون ، ومنع بعضهم من ممارسة مهامهم ، ووضعوا تحت مراقبة جواسيس الدولة وعملائها. فقد سجن الشيخ سراج أحمد ، والشيخ صالح حامد ، والشيخ علي ياسين ، والشيخ إدريس خيرى وغيرهم ؛ وطرد الشيخ الدمرداش ، وأهين القاضي موسى عمران ونفي من بلدته ، ومنعت البعثة الأزهرية من دخول البلاد ، وعين العملاء والجهلة – قسرا – في مناصب القضاء ، وأقصي أصحاب الكفاءة والنزاهة ، وحوصروا في مصادر رزقهم. وهذه أمور قد كتب فيها سماحة المفتي خطابات إحتجاج يطول سردها ويصعب حصرها. وكانت الحكومات الإيطالية والبريطانية تساوي مرتبة المفتي ومرتبة بطريارك الأرثوذكس ، ولكن الأمر تبدل مع الحكم الفيدرالي حتى في أبسط الأشياء – مقعد المفتي والبطريرك في المناسبات العامة ، حيث كانوا يتعمدون التمييز بتخصيص مقعد في الصدارة للبطريرك وتخصيص مقعد للمفتي مع عامة المدعوين. وقد تكررت خطابات المفتي في هذا الشأن ، ومنها خطابه رقم 13112 المؤرخ 26 أكتوبر 1966م حيث يقول فيه : “لذا أكرر الرجاء ليكون مقعد المفتي في الدرجة كمقعد الأسقف المذكور ، بدون أي تمييز بينهما ، تحقيقا للمساواة ، ومحافظة على حقوق وكرامة هذا المنصب الإسلامي كما كان الحال سابقا”
4- التمييز في الفرص التعليمية :
الفرص التعليمية ، وخاصة في المجالات العلمية المتقدمة كان نصيب المسلمين منها بخسا ، وقد لاحظ سماحة المفتي هذا الأمر في أكثر من موقف ، ومنها ما أشار إليه سماحته في خطابه الموجه إلى نائب الحاكم العام (بعد حديثه المباشر معه) – خطاب رقم 12363 المؤرخ 26 أكتوبر 1963م – حيث قال فيه : “نشرت المعارف أسماء المنقولين إلى المدارس الثانوية ، وفهمنا من ذلك بأن عددهم بلغ حوالي 848 طالبا وبينهم 68 مسلما ، بنسبة 8% ؛ وإني أبدي لكم أسفي البليغ لهذه النسبة المؤسفة لأبناء المسلمين ، وأحببت أن ألفت نظركم إلى ذلك لعمل اللازم بمنع أي تصرف يمكن أن يفسر بأنه تمييز ….. وأبديتم لي معاليكم إهتماما بالموضوع ، وطلبتم مني المزيد من الإشعارات بمثل هذه المواضيع ، تمهيدا للإصلاح”
5- التدخل في الشؤون الإسلامية:
تدخل السلطة في الشؤون الإسلامية والسطو على مؤسساتها ، قضائية كانت أو تعليمية ، دعوية كانت أو إجتماعية ، مما فاض به الكيل. وخطابات المفتي ومحادثاته مع المسؤولين في هذا الشأن مما يطول سرده. ولم تكتفي السلطة بالتدخل في شؤون المؤسسات الإسلامية ، بل تدخلت في منع بعض العلماء من الوعظ والإرشاد – كما حدث مع القاضي علي عمر – وقد كتب سماحته خطابا إلى وزير الداخلية قائلا : “إن أمر المحافظ المذكور يعتبر في نظري هتكا صارخا لنصوص الدستور، حيث أنه ليس من سلطته أن يمنع عالما مسلما من الوعظ في المسجد أو غيره.
إن العمل المذكور سيكون بدون شك في المستقبل حجة لتكرار العمل به في أمثاله ، لذا أرفع إليكم ما يأتي:
أ- إستنكاري و احتجاجي على العمل المذكور فإنه علاوة على كونه هتكا للدستور فإنه تدخل في واجبات المفتي بدون مبرر…………”. ولقد وصل الإستهتار بالسلطة إلى تدخل رئيس الحكومة في توقيت صلاة العيد ، والتحقيق مع المفتي لعدم إنصياعه لأوامره ؛ وقد كتب سماحته خطابه رقم 9805 محتجا على هذا التدخل وكان مما قاله: “ثم إني ألفت نظرك بأن ما يتعلق بصلاة العيد تقديما ، وتأخيرا ، وتركا ، إنما يخص رجال الدين الإسلامي وحدهم ، وإعطاءي الجواب لك في تأخير صلاة العيد إنما هو من قبيل المجاملة لك …..”.
6- محاربة اللغة العربية:
كان سماحة المفتي يرى أن اللغة العربية جزء أصيل من المكون الثقافي ، والديني ، والتراثي لمسلمي أرتريا. وكان هذا التصور موضع إجماع بين كل القيادات الإسلامية بكافة ألوانها وأطيافها. وأعلن سماحته لمندوب الأمم المتحدة أن قضية اللغة العربية قضية حقوقية إنسانية حيث قال في خطابه الموجه إليه : “اللغة العربية هي لغة المسلمين من عهود قديمة في هذا القطر وأن من يسعى لمنعهم عنها إنما يريد أن يحارب حقوق الإنسان أكثر مما يحارب حقوق المسلمين”. وقد خاض سماحته معركة طويلة في الدفاع عن اللغة العربية سعيا لاعتمادها لغة رسمية للبلاد ، ثم دفاعا عنها في داخل المؤسسات الإسلامية حين كانت السلطة تسعى لفرض اللغة الأمهرية قسرا وتهميش اللغة العربية.
7- إستهداف القرى الإسلامية بالهجوم :
قامت الدولة بحملات تمشيط واسعة في المناطق الريفية حيث سلطت عليهم قوات “الكومانوز” التي ارتكبت في حق الأبرياء أبشع الجرائم وأقبحها. وكان المستهدفون من هذه الحملات أغلبهم من المناطق ذات الأغلبية الإسلامية ، فكتب سماحته محتجا على إستهداف الأبرياء وتخصيص المناطق الإسلامية منها ، فقال في خطابه “علمت أن هذه الحوادث تقع على المسلمين وحدهم دون غيرهم ، الأمر الذي قد يؤدي إلى التفسير بوجود التمييز بين رعايا الحكومة، وهذا مما لا نرضاه لسمعة حكومتنا. لذا أرفع إليكم أسفي واحتجاجي على هذه الأعمال راجيا منكم عمل اللازم لوضع حد لها ، والتحقيق فيها ، وإرجاع الحقوق إلى أربابها بالتعويضات على ضوء قانون العدل والإنصاف محافظة على سمعة الحكومة”.
اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!