موقف المفتي من العمل السياسي

عاصر سماحة المفتي أحداثًا جسيمة وتحولات خطيرة حددت مصير ومستقبل البلاد. وشاهد بعينه التآمر على حقوق شعبه ووطنه والكيد للإسلام والمسلمين. ولم يكن لسماحة المفتي مندوحة في مثل هذا الظرف للابتعاد عن العمل السياسي والاكتفاء بمهمة الإفتاء والإشراف على مؤسستي القضاء الشرعي والأوقاف الإسلامية. لقد كان سماحته في ذلك العهد من القلائل الذين أتيحت لهم الفرصة للسفر إلى الخارج والإقامة لفترة طويلة في القاهرة، التي كانت تعج بالحركات السياسية والإسلامية ويقيم فيها زعماؤها وتنتشر فيها صحفها المتعددة التي تناوئ الاستعمار، وخاصة الاستعمار الإيطالي وما كان يرتكبه من مجازر في ليبيا. وكان الأزهر بطلبته القادمين من مختلف الأقطار، والقاهرة التي استوطن فيها العديد من علماء الأقطار، نافذتين على العالم العربي والإسلامي. وقد أتاح هذا الجو لسماحته أن يكون على قدر كبير من الوعي والفهم لطبيعة الصراعات والأطماع الدولية. وبحكم دراساته التاريخية، كان على دراية تامة بطبيعة الصراع في القرن الأفريقي وبأطماع أباطرة الحبشة وتطلعاتهم، وسياسات الإمبراطور الطائفية في الحبشة. ولكن العمل السياسي المباشر لم يكن متيسرا لسماحته لما كان يتطلبه منصب المفتي من الحياد والبعد عن المهاترات والصراعات الحزبية التي يتسم بها العمل السياسي. ولذلك اختار سماحته العمل السياسي غير المباشر من أجل الموازنة بين دوره كمفتي للبلاد ودوره كوطني حريص على رفع مستوى الوعي السياسي والدفاع عن شعبه. وقد استطاع القيام بهذه الأدوار كاملة، ولذلك كان دوره في مجال العمل الوطني والسياسي دورًا طليعيًا، وكان وراء كثير من المبادرات الوطنية والشعبية. ونظرًا للدور غير المباشر لعمل سماحته السياسي، فإنه من العسير استقصاء الصورة الكاملة لهذا الدور المهم، وقد طوى التاريخ جانبًا منها، خاصة بعد رحيل الجيل الأول من القادة والزعماء. ويمكن استشفاف بعض ملامح هذا العمل غير المباشر مما تبقى لدينا من كتابات المفتي وكتابات بعض معاصريه، ويمكن الإشارة إلى بعضها في النقاط التالية:

  1. عدم الانتماء إلى أي حزب سياسي، رغم أنه كان له دور أساسي غير مباشر في تأسيس ودعم حزب الرابطة الإسلامية.
  2. عدم حضور المحافل السياسية الحزبية، والمحفل الوحيد الذي شارك فيه هو مؤتمر المصالحة الوطنية المنعقد في يوم الأحد 22 ربيع الأول 1370هـ الموافق 21 ديسمبر 1950م في مدينة أسمرة، لأنه كان مؤتمرًا وطنيًا عامًا لا يمثل جهة أو فئة معينة.
  3. كتابة المقالات السياسية والدراسات التاريخية التي تؤكد على خصوصية أرتريا بأسماء مستعارة؛ ولعل ما كتبه ونشره في الصحف المحلية في الجانب السياسي بعد عودته من مصر يفوق ما كتبه في الجانب الشرعي.
  4. الاتصال المستمر بالقيادات السياسية والوطنية والتشاور معهم، وقد كان أخوه الأكبر الحاج سليمان أحمد عمر من أبرز قادة العمل السياسي، وآخرون كانوا من المقربين إليه، والبعض منهم من تلاميذه. وكان له دور مهم في التوفيق بين جبهات العمل السياسي الوطني، والحيلولة دون انقسامها وتشرذمها.
  5. عدم المساومة في الثوابت الوطنية، والتصريح بموقفه أمام مندوبي الأمم المتحدة، ومبعوثي الدول الخارجية. وهذه الثوابت يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
    • المطالبة بمنح إريتريا الاستقلال التام.
    • احترام إرادة واختيار الشعب الأرتري.
    • المحافظة على وحدة الكيان الأرتري، ورفض التجزئة.
    • احترام التعدد الثقافي والديني، والمساواة بين الجميع، والاعتراف باللغتين العربية والتيجرينية كلغتين رسميتين للدولة.

وفي فترة تقرير المصير، عمل سماحته مع الوطنيين من نواب البرلمان ومع بقية القيادات الوطنية:

  • مطالبًا باحترام القرار الفيدرالي وتطبيقه كاملاً، وفي أكثر من مناسبة حذر من انتهاك القرار. وفي أول لقاء له مع رئيس الحكومة “أسفها ولد ميكائيل” شدد سماحته على هذا المعنى حين قال له: “وكل ما يهمنا ويهم الشعب هو المحافظة على قرار الأمم المتحدة، ودستور أرتريا، وتطبيقهما نصًا وروحًا. وإنا نخشى أن يحدث التعدي على حقوق أرتريا…”
  • احترام حقوق الإنسان، ووقف الانتهاكات القانونية، ومعاملة السجناء وفق مبادئ العدل والقانون. وقد تدخل سماحته شخصيًا في أمر سجناء “عدي خالة” مطالبًا الحاكم العام بالاستجابة لمطالبهم وإنصافهم.
  • التحذير والنصح للقائمين على الأمر، وله مواقف كثيرة أدت إلى إثارة مجموعة من القضايا داخل أروقة البرلمان، ورفع المذكرات من قبل النواب.

بعد الاحتلال الكامل للبلاد، ضاقت مساحة الحركة أمام سماحته، وأصبح كثير من رواد العمل السياسي إما خارج البلاد أو في السجن أو تحت المراقبة البوليسية. وقد سعت السلطة التي كانت تنظر إليه كـ “مرشد” للحركة الاستقلالية إلى تصفيته بوسائل غير مباشرة أو تهميشه، وهو أمر فشلت فيه. وله في هذه الفترة مواقف تمثلت بعض جوانبها فيما يلي:

  • رفض مسايرة النظام والوقوف ضد الثورة الإريترية رغم الضغوط والمحاولات المستمرة. وكان يتابع أخبار الثورة عن كثب، ويبدي إعجابه بعملياتها في مجالسه وكتاباته الخاصة. وقد قاوم كل محاولات السلطة لاستخراج فتوى منه باعتبار الثوار “بغاة” ومخربين. وقد رد سماحته على إحدى هذه المطالب الحكومية برفض اعتبار الثوار بغاة، مؤكداً تمسكه بما تقرره النصوص الشرعية في الخارجين: “إن كان خروجهم دفاعاً عن حق معين، فإنهم لا يعتبرون بغاة.” وكرر رفضه إصدار بيان “يؤيد جانباً واحداً”، مبيناً استعداده لإصدار بيان “بالدعوة إلى السلام دون ميل إلى أحد الطرفين”.
  • رفض التنازل عن خصوصيات إريتريا في دائرة ما يقع تحت اختصاصه، خاصة داخل مؤسسات القضاء والإفتاء والأوقاف. وقد دخل في هذا الشأن في صراع طويل مع مؤسسات الدولة المختلفة.
  • الاحتجاج على التعدي على الأبرياء، وتدمير القرى، وتهجير أهلها. وقد صرح بهذا في أكثر من موقف، منها رسالته إلى الحاكم العام “أسراتي كاسا” التي أشار فيها إلى ما قامت به قوات الحكومة من “قتل الأرواح، ونهب الأموال، وتدمير المزروعات، وحرق المساكن العديدة، حتى أصبحت الأعداد الهائلة من الكتل البشرية من الأطفال والنساء والضعفاء وغيرهم في العراء بدون أي جريمة قضائية أدينوا بها”، مبينًا جريرة هذا العمل قائلًا: “وأعتقد أنكم توافقونني بأن معاقبة الأبرياء بذنوب غيرهم لا يتفق مع قانون العدالة وحقوق الإنسان”، مطالبًا بـ “وضع حد لها، والتحقيق فيها، وإرجاع الحقوق إلى أربابها بالتعويضات على ضوء قانون العدل والإنصاف”. وكان حلم الحرية والانعتاق من الاحتلال الطائفي لا يفارقه، والحديث عن الحرية مما لا تخلو منه مجالسه الخاصة، وكان يقول لخلصائه، إن عهد الظلم الإمبراطوري لا محالة زائل، والحرية قادمة، ولكن لا ندري أيكون ذلك في جيلنا أم في الجيل اللاحق.[1]

[1] نقل هذا الكلام عنه الأستاذ نجاش كردي، وكان جارا لسماحة المفتي ومقربا منه.

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *