مواقف من عصر الإستعمار الإيطالي
بدأ الاحتلال الإيطالي لأرتريا عبر شراء قطعة أرض في منطقة “عصب” من قبل شخص إيطالي يدعى “جيوسبه ساباتو” بغرض جعلها مخازن الفحم لتموين بواخر شركة “روباتينو” الإيطالية. وقد تم شراء الأرض من سلطاني الدناكل بمبلغ 47 الف فرنك وذلك في يوم الإثنين 11 شعبان 1286هـ الموافق 15 نوفمبر 1869م*. ولم تلبث الشركة التي أشترت الأرض أن باعتها للحكومة الإيطالية والتي بدورها قامت باحتلالها بعد ذلك إحتلالا عسكريا في عام 1871م. وقد إحتجت الحكومة المصرية على هذه الإجراءات ، وطعنت في صحة البيع بحجة أن السلطانين تابعين للحكم المصري.
وبعد ما استفحلت الثورة العرابية بمصر والثورة المهدية في السودان ، قررت مصر التخلي عن سواحل البحر الأحمر ، فخافت إيطاليا أن تسبقها فرنسا ، فقامت بمساعدة من بريطانيا بإحتلال مدينة مصوع في 20 ربيع الثاني 1302هـ الموافق 5 فبراير 1885م ، إثر خروج الحامية المصرية منها. بعد إحتلال إيطاليا لمصوع إنطلق جنودها نحو الدواخل الأرترية لإحتلالها، ورغم بعض المواجهات العسكرية مع “راس ألولا”** القائد العسكري التابع لملك التجراي “يوحنا” ، وقبائل أخرى فإنهم لم يجدوا صعوبة كبيرة في إخضاع البلاد كلها لحكمهم. وقد وجد الإيطاليون جو الهضبة مناسبا لهم ، فقرروا أن يجعلوا من أرتريا مستوطنة فجاءوا بأعداد كبيرة من مواطنيهم ، واستأثروا لأنفسهم بأفضل الأراضي الزراعية ، وقاموا بحركة تعمير وبناء واسعة لم تشهدها أرتريا من قبل ولابعد. وكان المستفيد الأكبر من هذه الحركة التعميرية المستوطنون الإيطاليون.
وقد ولد سماحة المفتي في عصر الإحتلال الإيطالي ، وعاد إلى إلى البلاد مفتيا في أواخر أيامهم ، وفي معرض حديثه عن الحكم الإيطالي في بعض كتاباته يلخص سماحته حسنات وسيئات العصر الإيطالي في النقاط التالية:
حسنات العصر الإيطالي:
1- إستتباب الأمن في جميع أنحاء القطر بصفة لا يوجد له مثيل من قبل ولا من بعد.
2- بناء البنايات الكثيرة ، والعمارات الضخمة ، والأحياء السكنية الواسعة.
3- تسهيل المواصلات من فتح السكك الحديدية ، وشق الطرق وتنظيمها تنظيما بديعا.
4- نمو حركة التجارة نموا عظيما ، وإغتناء كثير من الناس ، وخاصة بعد إحتلال أثيوبيا.
5- إيجاد المرافق العامة من المصارف المالية والبريد والإذاعة وغير ذلك.
6- ترك ثروة تاريخية من المؤلفات والبحوث والدراسات عن تاريخ أرتريا وشعوبها.
سيئات العصر الإيطالي:
1- إماتة الشعب من الناحية الثقافية والتعليمية وفرض الجهل على الناس *** حتى أصبح الناس “لا يعرفون شيئا من حقوقهم الإجتماعية والإنسانية ، سوى الإشادة بعظمة إيطاليا ومجدها والإنصياع التام لها”.
2- القمع السياسي وكبت الحريات ، وقد كانت قراءة الصحف الخارجية والكتب العصرية والقومية محظورة ، ودخولها إلى أرتريا ممنوعة. ولهذا السبب لم تفتح في أيامهم “لا مدارس ولا معاهد أهلية ، ولا جمعيات ثقافية أو رياضية ، ولا هيئات سياسية أو إجتماعية أو إقتصادية”.
3- النعرة العنصرية التي جعلت من الجنس الأبيض ، وعلى الأخص الجنس الإيطالي ، جنسا مقدسا لا يشاركه أرباب الألوان الاخرى لا في النوادي ولا في الحافلات العامة ولا في الأحياء السكنية ، “بل كان ممنوعا أن يكلم وطني إيطاليا في الشوارع العامة”.
وفيما يلي بعض المواقف التي مرت بالمفتي ، وهي مواقف تصور واقع الحال في أرتريا.
– مقالات بأسماء مستعارة:
في أثناء إقامة سماحة المفتي بمصر كان ينشر مقالات بأسماء مستعارة ضد الإستعمار الإيطالي في الصحف المصرية ، وبالأخص صحيفة “القلم الصريح”. ونظرا لما كانت تحتويه هذه المقالات من معلومات دقيقة ومفصلة عن أرتريا لا يعرفها إلا أبناء أرتريا ، فقد ضجت من هذه المقالات الحكومة الإيطالية وحاولت أن تعرف مصدرها عبر عيونها وجواسيسها في داخل رواق الجبرتي بالأزهر ، ولكنها لم تلفح. وقد أغلقت الحكومة المصرية صحيفة “القلم الصريح” في مابعد نتيجة لشكاوي الحكومة الإيطالية واحتجاجاتها المتكررة.
– الصحف ممنوعة:
بعد عودة سماحته إلى أرتريا تعرض في ثاني يوم من وصوله إلى أسمرة لموقف يدل على مدى عمق الكبت والإرهاب السياسي ، فقد ذهب سماحته إلى إدارة الشؤون السياسية لمقابلة المسؤوليين وفي يده نسخة من “مجلة الإسلام” ، وبمجرد دخوله إلى المكتب شاهد موظف مسلم المجلة في يد سماحته فأقبل نحوه مسرعا وعلى وجهه الفزع وقام بدفع سماحته إلى غرفة خاصة وقال له “ألم تعلم أن قراءة الصحف العربية ممنوعة قطعا لغير المكتب السياسي” ثم قام بأخذ الجريدة وإخفائها حتى لا يشاهدها أحد من الناس!
– السكن مع الإيطاليين جريمة:
عرضت الحكومة الإيطالية على سماحته إثر وصوله إلى أسمرة مسكنا يقيم فيه ، ولكنه إختار أن يسكن في مبنى كان يملكه أخوه الأكبر ، وكان سكان المبنى كلهم إيطاليون فانزعجوا من ذلك إنزعاجا شديدا ، وصاروا يضايقون سماحته بكل وسيلة ممكنة حتى يغادر المبنى ، ثم رفعوا شكوى إلى الجهات الرسمية ضد صاحب المبنى بتهمة إسكانه شخصا غير إيطالي معهم في نفس المبنى!
– الركوب مع الإيطاليين ممنوع:
في الحافلات العامة كان في مؤخرة كل حافلة زاوية صغيرة تسع مقدار 3 أو 4 أشخاص مخصصة للوطنيين يتزاحمون فيها وهم وقوف على أقدامهم ، وكان ممنوعا لغير الإيطاليين الصعود في مقدمة الحافلة ، ورغم أن سماحته أعطي رخصة خاصة للصعود في الأمام فإن السواقين الإيطاليين كانوا يرمون الرخصة في وجهه ويمنعونه من الصعود ، وقد وصل بهم الأمر أنه في أحدى المرات التي إستطاع سماحته الركوب في الأمام إجتمع عليه الركاب الإيطاليون فأجبروه على النزول من الحافلة! وقد كتب سماحته رسالة (خطاب رقم 2073) للمسؤليين يشتكي فيها من هذه المضايقات.
– فتوى الجيش:
جندت إيطاليا في جيشها عددا كبيرا من الشباب الأرتري بإغرائهم بمعاشات عالية نسبيا ، وباللجوء إلى التجنيد الإجباري أحيانا ، وجعلتهم وقودا لمشاريعها الإستعمارية في الصومال وليبيا والحبشة ، وفي الحروب العالمية التي خاضتها ضد قوات الحلفاء.
ونظرا لوجود عدد من المسلمين الأرتريين في داخل الجيش ، فإن قيادة الجيوش الأرترية المتوجهة للقتال في الجبهة السودانية في الحرب العالمية الثانية أرسلت طلبا إلى سماحة المفتي في 5 رمضان 1395هـ الموافق 7 نوفمبر 1940 م بأن يصدر فتوى للجنود المسلمين في الجيش بجواز الفطر في رمضان بسبب الحرب ، وكان البعض قد أشار إلى الحاكم بأن ذلك ممكن وأنه يمكن إستصدار فتوى عامة بهذا الخصوص ، ولكن سماحته لم يستجب لطلبهم ولم يترخص لهم بل أفتاهم بما هو مقرر عند المذاهب ، وهو مما يفسد عليهم تخطيطم العسكري ، وفيما يلى نص فتوى سماحته:
“يجوز قصر الصوم للجنود إذا نوى أميرهم سفر ثلاثة أيام وأعلمهم بذلك تبعا له ، ولا يجوز قصر الصوم للجنود وحدهم قطعا ولو نووا مسيرة ثلاثة أيام لعدم إنفرادهم بحكم أنفسهم ، وإذا خرج الأمير مع جيشه لطلب العدو ولم يعلم أين يدركهم ولم يقصد مسافة ثلاثة أيام لا يكون مسافرا ولو طاف في جميع الدنيا”
وقد غضب الحاكم الإيطالي من هذه الفتوى وتهدد سماحته ، ولكن شاءت إرادة الله أن تهزم إيطاليا في الحرب وينتهي حكمها لأرتريا نهائيا.
بريطانيا والإرث الإيطالي:
وقد دخل البريطانيون إلى أرتريا إثر هزيمة إيطاليا فألغوا كثيرا من الإجراءات الإيطالية القمعية ، وفتحوا أبواب الحريات ، فتأسست الصحف والأحزاب والجمعيات ، وفتحت المدارس وانتشر التعليم إنتشارا واسعا. وكان عصرهم عصر “بدء ولادة الوعي القومي في أرتريا”. ولكن العصر البريطاني كان بالمقابل عصر الإنفلات الأمني ، وإنتشار اللصوص وقطاع الطرق ، والكساد الإقتصادي والتجاري ، والخراب العمراني الذريع.
يقول سماحته في مقتطفات من وصفه للخراب الذي عم البلاد “… فتصرف فيها {الثروة التي تركها الإيطاليون} الإنجليز ، وانتقلت تلك الثروة العظيمة كلها إلى البلدان المجاورة ، بل إلى بلاد الإنجليز وإلى غيرها ، ودكت كثير من القلاع والحصون وفرغت من محتوياتها، كما حصل في “دقي أمحرى” و”ماي عداقة” و”قنافنا” و”سقنيتي” و”كعاتيت” و”أمباسياس”…وأنفس المباني التي خربها الإنجليز القاعدة البحرية في مصوع التي كانوا يسمونها “كماندا مرينا”.. والطرق الجميلة آلت إلى الخراب… والقطر الأرتري وشعبه كله أصبح في بركان من الفتن وساد التقاطع بين الناس …. وضعفت التجارة … وكثير من التجار تركوا أرتريا ، والناس أصبحوا في مشقة من المعيشة وشكوى الموظفين وصلت إلى الغاية”.
_______________________________________
*وهذه صورة حجة البيع كما نشره الإيطاليون:
بسم الله الرحمن الرحيم
في يوم الاثنين 11 من شهر شعبان 1286هـ قد حصل الإتفاق بين الأخين حسن ابن أحمد وإبراهيم ابن أحمد سلاطين مقاطعة عصب قد باع ويبيع للسنيور جوسبه سباتو المذكور سابقا الأرض الكائنة ما بين جبل جنجى وراس لوماح مع طرفيها الموازيين لها على أن تصير الأرض تبع ملك السنيور جوسبه سباتو حال ما يدفع الثمن لأنهما باعاها له عن محض إرادتهما ورضائهما وبنية خالصة.
** “راس ألولا” (1847-1897م) قائد عسكري مشهور من أخلص قادة ملك التيجراي “الملك يوحنا” ، وقد قام “راس ألولا” بإحتلال الهضبة الأرترية ، وقاتل جيوش الحركة المهدية وقاتل الإيطاليين وألحق بهم خسائر كبيرة في معركة “دوقلي”. وقد أفل نجم “راس ألولا” بعد مقتل قائده في معركة “متما” المشهورة.
*** لم يتجاوز التعليم في أيامهم المراحل الإبتدائية ، وكانت التعليمات الصادرة من “السنيور فيستا” مدير المعارف في أرتريا في عام 1938 إلى المدرسين تشير إلى مايلي:
“عند إنتهاء عامه الدراسي الرابع ينبغي أن يلم الطالب الأرتري بلغتنا بقدر يمكنه التفاهم معنا ، وأن يعلم من الحساب القواعد الأربع في حدود تمكنه من معرفة مبادئ الحساب ، ومن التاريخ يجب أن يعرف أولئك الرجال الذين جعلوا إيطاليا عظيمة”
اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!