جريدة صوت أرتريا ومواقفها المشرفة في الدفاع عن حقوق أرتريا

(نقل بتصرف من مدونات سماحة المفتي)

أنشئت جريدة صوت أرتريا في محرم 1372هـ، الموافق سبتمبر 1952م. وقد ظهرت الجريدة في فترة من أصعب المراحل في التاريخ الأرتري، حيث أصبحت البلاد تحت قبضة الإمبراطور وأعوانه، وأصبحت الحقوق الدستورية محل تلاعب وعبث السلطة التي مارست أبشع أساليب التعذيب ضد الأحرار من أبناء البلد، وبدأ ما تبقى من هامش الحرية وحقوق الإنسان يتقلص بالتدريج.

وقد قامت جريدة صوت أرتريا بدور بارز وجهد مشكور في الدفاع عن القرار الفيدرالي والدستور الأرتري، وفضح الانتهاكات التي كانت تمارس من قبل السلطة، ونشر ما كان يتعرض له الأحرار من التعذيب الوحشي في أقبية السجون. وكانت بذلك المتنفس الوحيد للتعبير عن رغبات الشعب وقادته الأوفياء الذين رفضوا تقديم التنازلات والتفريط في حقوق الشعب. ولذلك أصبحت الجريدة من أوسع الجرائد انتشارًا وقوة، ويحسب لها ألف حساب.

وقد نشرت الجريدة ضمن ما نشرته مقالًا طويلًا ومفصلاً من قبل الرابطة الإسلامية الأرتريه في أعدادها 11 و14 من شهر نوفمبر وديسمبر 1952م، وذلك بمناسبة العام السابع للرابطة. كان المقال يحتوي على تفصيل كامل ودقيق لجميع المخالفات القانونية التي ارتكبتها الحكومة في أرتريا وإثيوبيا. كان لهذا المقال صدى واسعا أغضب السلطات الحاكمة وأزعجها إزعاجًا شديدًا.

ولما جاء الإمبراطور إلى أرتريا في زيارته الثانية في 14 جمادى الأولى 1372هـ الموافق 3 يناير 1953م، رفع الشعب الإسلامي عبر ممثليه عرضًا إلى الإمبراطور، وأرسلوا صورة منه إلى رئيس الحكومة، ورئيس البرلمان، ونواب أرتريا في المجلس الفيدرالي في أديس أبابا، مطالبين فيها بحقوق إريتريا. وقد نشرت ذلك الخطاب جريدة صوت أرتريا بالكامل في العدد 21 الصادر في 22 جمادى الأولى 1372هـ الموافق 7 فبراير 1953م، تحت عنوان “خطاب الشعب إلى جلالة الإمبراطور”. وقد نقلت الصحف الخارجية ذلك المقال من جريدة صوت إريتريا ونشرته في أعدادها. وقد غضب الإمبراطور من ذلك فطلب من رئيس الحكومة “تدلا بيروا” بإغلاقها فورًا، غير أن رئيس الحكومة طلب من الإمبراطور المهلة حتى يوجد المبرر القانوني لذلك حتى لا يتهم بخرق قانون حرية الصحافة.

نشرت الصحيفة أيضًا ضمن ما نشرته عرضًا آخر وقع عليه 125 شخصًا من الرابطة موجهًا إلى محكمة هيئة الأمم المتحدة بأسمرة، وصورة منه إلى رئيس الحكومة والبرلمان الارتري تحت عنوان: “خطاب الشعب إلى محكمة هيئة الأمم المتحدة بأسمرة”. كما نشرت أيضًا مقالًا آخر تحت عنوان: “نداء إلى الولاة”، مطالبة المسؤولين بالتنحي عن مناصبهم بعد عجزهم عن الدفاع عن الحقوق الوطنية والدستورية، واستسلامهم لممثل الإمبراطور.

وقد اشتد غضب الحكومتين على الجريدة إثر نشر هذه المقالات، فأصدرت أمرًا فوريًا بإيقاف الجريدة مؤقتًا، ثم أصدرت بعد أيام أمرًا آخر بإلغائها نهائيًا. ولم تكتفِ السلطة بذلك بل قامت برفع الدعوى على محررها الأول، محمد سعيد، وعلى محررها الثاني، محمد صالح محمود، وشخص ثالث، ومكثت التحقيقات شهورًا. وكان القضاء الأرتري لا يزال يتمتع بشيء من الاستقلالية، ولم تكن يد العبث بالدستور والقانون قد وصلت إليه بعد، ولذلك أصدرت محكمة المنطقة في أسمرة برئاسة “مستر أزميد” حكمها ببراءة المتهمين وجريدتهم وبطلان دعوى الحكومة. وبعد هذا الحكم، رفع مدير الجريدة الأستاذ محمد صالح محمود دعوى على الحكومة لكونها أغلقت الجريدة بطريقة مخالفة للقانون، وقد قبلت المحكمة الكبرى الدعوى وأصدرت في يوم 9 ذو الحجة 1372هـ الموافق 18 أغسطس 1953م، حكمًا بعدم قانونية إجراءات رئيس البوليس ووزير الداخلية، وبراءة جريدة صوت إريتريا من كل الاتهامات.

عادت جريدة صوت أرتريا إلى الصدور مرةً ثانية بعد تعطيل دام قرابة سنة، واستمرت على نهجها السابق في الدفاع عن الحقوق الدستورية، وظلت الحكومة تتربص بها وتتحين الفرصة للقضاء عليها، فلجأت إلى مضايقة الجريدة ومحرريها عبر التحقيقات البوليسية المتوالية. ثم لجأت السلطة إلى المحكمة الفيدرالية العليا، التي بدورها قامت باستدعاء مدير جريدة صوت أرتريا، الأستاذ محمد صالح محمود، ولكنه رفض المثول أمامها باعتبار أن الجريدة صادرة برخصة من حكومة أرتريا، وأن المحكمة الفيدرالية لا اختصاص لها في الأمر.

وقد أثار ما كانت تتعرض له الجريدة من تنكيل عواطف عموم الشعب، فعقد زعماء الرابطة الاجتماعات وقاموا بإرسال الخطابات عبر سكرتير الرابطة بالنيابة الحاج سليمان أحمد عمر إلى الإمبراطور وإلى رئيس السلطة التنفيذية (انظر الملحق 1)، وذهب وفد منهم لمقابلة رئيس الحكومة “تدلا بيروا” في هذا الشأن. وتحرك أيضًا بعض نواب البرلمان لمناصرة جريدة صوت أرتريا، وأرسلوا تلغراف احتجاج إلى الإمبراطور، وأضربوا عن العمل نصف النهار، وكتبوا وثيقة في هذا الشأن وفوضوا النائب البرلماني القاضي موسى آدم عمران بتلاوة ذلك البيان في البرلمان. وقد قدم المتهمون عرضًا إلى المسؤولين في الحكومة الإريترية، وأرسلوا صورة منه إلى قناصل الدول الخارجية بأسمره. واستمرت الاحتجاجات على كافة المستويات والجهات الرسمية وغير الرسمية.

رغم كل هذه الاحتجاجات، فقد تم تقديم خمسة أشخاص من جريدة صوت أرتريا للمحاكمة (أنظر الملحق 2 في دعوى المدعي العمومي). وبعد قرابة خمسة أشهر من التحقيقات، أصدرت المحكمة حكمها في 12 ربيع الثاني 1374هـ الموافق 8 ديسمبر 1954، برئاسة “هنس” وعضوية “دموز حقوس”، عمدة صنعفى وحواليها، و”إدريس لجام”، عمدة طرفي بلين، وقاضٍ آخر. وخلاصة الحكم ما يلي:

– سجن ثلاث سنوات على مدير الجريدة محمد صالح محمود

– سجن ستّ سنوات لإلياس تخلوا

– السجن سنة لعبد النبي محمد حقوس أبرة

– السجن سنة للأمين على كرار

– السجن ستة أشهر لأفورقي قبرى سلاسى

– تعطيل جريدة صوت أرتريا لمدة سنتين كاملتين، وغرامة ألفي دولار، وإذا لم تدفع الجريدة المبلغ المذكور، يُضاف إليها تعطيل سنة ثالثة.

وبعد صدور هذا الحكم، تم نقل المذكورين حالاً إلى سجن “عدي خوالا”. ويشير سماحة المفتي إلى أنه “لم يثبت على أحد منهم شيء مما ادعو عليه، وكان الاعتقاد السائد بين الناس هو خروجهم أبرياء، ولكن جاء الأمر خلاف ذلك”. وقد أحدث هذا الحكم الجائر استياءً كبيراً لدى عامة طبقات الشعب، وقد عبّر سماحة المفتي عن تألمه لهذا الحكم والجور الواقع على الأبرياء، والانتهاكات التي كانت تقوم بها المحكمة الفيدرالية المزعومة، في أبيات ذكرها في مؤلفه. وقد كان رحمه الله معجباً بالجريدة ومواقفها الشجاعة، ومناصراً لها بوسائل غير مباشرة.

____________________________________
ملحق 1: نص خطاب الرابطة في الدفاع عن جريدة صوت أرتريا

حضرة صاحب الجلالة إمبراطور أثيوبيا الرئيس الأعلى للفيدرالية.

ترجوا الرابطة الإسلامية من جلالتكم بصفتكم حارسا على قرار الأمم المتحدة ودستور أرتريا توقيف المحكمة العليا بأسمرة عن محاكمة مدير ومحرر جريدة صوت أرتريا، تلك المحاكمة التي بدأت أمامها يوم 11 أغسطس 1954م، لكون ذلك تدخلا في مختصات شؤون أرتريا الداخلية ومخالفا للقرار والدستور الأرتري، ونلتمس تحويل قضيتهم إلى القضاء الأرتري المختص مع رجائنا الإفادة.
13 أغسطس 1954م
الرابطة الإسلامية
السكرتير بالنيابة
سليمان أحمد عمر

وقد أرسلت رسالة أخرى بنفس المعنى إلى رئيس السلطة التنفيذية لحكومة أرتريا
_________________________________
ملحق 2: نص اتهام المدعي العمومي الأثيوبي ضد صوت أرتريا:
الحكومة الإمبراطورية الأثيوبية قضية رقم 251\46
مكتب وكيل المحامي العمومي الفيدرالي أسمرة 21 حملى 1946[1]
في المحكمة الفيدرالية العليا الموقرة المنعقدة في أسمرة، القسم الجنائي وكيل المحامي العمومي

  1. مطبعة فيورتي التي يمثلها المستر روس سبانيت أنجلو البالغ من العمر 43 عاما، والمقيم في أسمرة شارع كورسو رقم 4، والإيطالي الجنسية.
  2. أتوا محمد صالح محمود البالغ من العمر 38 عاما، مدير جريدة صوت أرتريا، والمقيم في أسمرة شارع فنيتو رقم 27، والأثيوبي الجنسية.
  3. أتو إلياس تكلوا البالغ من العمر 40 عاما، محرر جريدة صوت أرتريا باللغة التجرينية، والمقيم في أسمرة بكرافنسلاريو، والأثيوبي الجنسية.
  4. أتو الأمين علي البالغ من العمر 27 عاما، محرر جريدة صوت أرتريا باللغة العربية والمقيم في أسمرة، والأثيوبي الجنسية.
  5. أتو قرا مسقل سلول البالغ من العمر 31 عاما، محرر جريدة صوت أرتريا باللغة التجرينية، والمقيم في أسمرا شارع براتو، والأثيوبي الجنسية.
  6. المستر موكي سالفاتوري البالغ من العمر 51 عاما، موزع جريدة صوت أرتريا، والمقيم في أسمرة بشارع براتو بقصر فاليتا، والإيطالي الجنسية.

فهؤلاء جميعا متهمون بالجرائم الآتية:

بيان الجريمة:
انتهاكا لحرمة المادتين 9 و10 من إعلان جرائم الفيدرالية رقم 138 لعام 1953م، فقد ارتكب المتهمون المذكورون أعلاه نشاطا سياسيا هداما ليعرضوا سلامة الفيدرالية للخطر وإيجاد الانقسام.
تفاصيل الجريمة:
لقد كون الأشخاص المذكورون أعلاه في المدة من مارس إلى يوليو 1954م كتلة منظمة سياسية، الغرض الرئيسي منها إيجاد الانقسام في الفيدرالية وفصل إرتريا من أثيوبيا الأمر الذي ينمي في الشعب الأرتري عدم الثقة في الحكومة الفيدرالية ويسبب أعمال العنف وإراقة الدماء بين الإخوة من الشعب وهي موجبة لقلب الحكومة الفيدرالية وتعريض سلامة الفيدرالية للخطر وذلك في:

  1. طبعة من الجريدة المذكورة رقم 32 صدرت في 24 من مقابيت[2] نشر فيها المتهمون باطلا بأن الحكومة الأثيوبية الفيدرالية اعتدت على حقوق أرتريا وبذلك ارتكبوا نشاطا سياسيا هداما.
  2. في طبعة من الجريدة المذكورة رقم 41 صدرت في السابع والعشرين من قمبت 1946 نشر المتهمون فيها مقالا تحت عنوان تصريح خطير ذكروا فيها زورا بأن وزير المالية عقد اجتماعا في أديس أبابا صرح فيه عن رأي الحكومة الأثيوبية وقال بأن الحكومة المذكورة تمنع المسلمين من الذهاب للحج إلى مكة، وقد وصفت المقالة المذكورة زورا بأن التصريح المزعوم هو رأى الحكومة الأثيوبية وكذلك أدعت كذبا بأن الرأي المذكور مخالف لحقوق الإنسان وبذلك ارتكب المتهمون عملا يكمن فيه نشاط سياسي هدام.
  3. في طبعة من الجريدة المذكورة رقم 43 صدرت في الحادي عشر من سني 1946 فإن المتهمين زعموا زورا وبهتانا بأن أثيوبيا مع محاباة الحكومة البريطانية لها قد اختلست ثروة أرتريا دون ما رحمة وبذلك ارتكب المتهمون عملا يكمن فيه نشاط سياسي هدام.
  4. إن المتهمين المذكورين قد نشروا على العموم مقالات ذات طابع سياسي هدام في الجريدة المذكورة وبذلك ارتكبوا عملا يكمن فيه نشاط سياسي هدام.

ملحوظة: التواريخ المذكورة هي بالتقويم الحبشي.


[1] بالتقويم الإثيوبي.

[2] يوافق 2 أبريل 1954م الموافق 28 رجب 1373م.

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *