الصراع حول اللغة العربية في داخل وخارج البرلمان الأرتري
اللغة العربية وثيقة الصلة بأرتريا منذ عهد قديم. فهي من أقدم اللغات السامية الحية التي تنتمي إليها أكثر اللغات الأرترية إنتشارا اليوم : التيجرينية ، والتيجري. ولا يزال في مفردات هذه اللغات المحلية الكثير من الكلمات المشابهة للمفردات العربية. ولغة “الجئز” التي تنحدر منها اللغات المذكورة هي أكثر صلة وشبها باللغة العربية. وبحكم قرب أرتريا من اليمن والحجاز فإن الهجرات المتعاقبة ساهمت في توطيد هذه الصلة وصبغ الثقافة الأرترية بصبغة عربية أفريقية متميزة. وازدادت هذه الصلة قوة وعمقا بقدوم الإسلام ، وأصبح للعربية إنتشار أوسع وتأثير أكبر. ويؤكد سماحة المفتي أنه كان للعربية إنتشار قديم سبق الإسلام ، ويدلل على ذلك بأن “محادثات رسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك كهرقل ونحوه – كما تحدثنا كتب التاريخ – كانت بينهم عبر المترجم ، أما محادثاتهم مع النجاشي وأتباعه كانت كلها بالعربية. وقد قرأ رئيس المهاجرين جعفر إبن أبي طالب أمام النجاشي سورة مريم وغيرها ، ولم نسمع من ذكر الترجمة في ذلك. كما أن الكتب التي كتبها النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم كانت أيضا بالعربية ، بل جاءت في كتب النجاشي كلمات تعد من شوارد اللغة العربية….”
ورغم هذه المكانة التاريخية والتأثير الواسع للغة العربية ، فقد دار حولها صراع طويل في أرتريا بين من يعتبرها لغة أجنبية دخيلة ، وبين من يراها لغة وطنية أصيلة. وقد ظهرت بوادر هذا الصراع بعد الإحتلال البريطاني ، وإفتتاح المدارس ، وظهور الصحف والأحزاب السياسية. وكان سماحة المفتي في خضم هذا الصراع ، وكان من أبرز من كتب ونافح عن اللغة العربية. وقد دون سماحته جوانب من هذا الصراع في عدد من كتاباته ومن أبرزها مؤلفه ” دحض الوشاة عن اللغة العربية في أرتريا والحبشة”. وفيما يلي عرض لبعض جوانب هذا الصراع نقلا من كتابات سماحة المفتي.
بدايات الصراع:
فتحت الإدارة البريطانية فرص العمل في الوظائف الإدارية والرسمية للوطنيين ، وقلدت عددا منهم وظائف مهمة ، وبالأخص الأرتريون المثقفون ثقافة بروتستانتية إنجليزية – من خريجي المدارس التبشيرية السويدية – . وكانت هذه الثقافة “مضطهدة في أيام الحكم الإيطالي” بحكم إنتماء الإيطاليين إلى الكاثوليكية * ، وتقديمهم للغتهم الإيطالية. ولم يكن بين المسلمين من يحسن اللغة الإنجليزية نتيجة “لعزوفهم سابقا عن إدخال أبنائهم في المدارس الإرسالية التبشيرية خوفا على دينهم”. فقامت الإدارة البريطانية بإفساح المجال لخريجي هذه المدارس التبشيرية “وقلدتهم مهام إدارة أرتريا”. وقد كان لهؤلاء دور مهم في التقليل من مكانة اللغة العربية ، والسعي لإستبعادها من مناهج التعليم والتوجيه ، وأقناع ضابط مكتب الإستعلامات البريطانية في عام 1945م باعتماد اللغة التيجرينية لغة رسمية لأرتريا ، واعتبار اللغة العربية لغة إضافية ، واعتماد ميزانية سنوية للجريدة التيجرينية ، دون الجريدة العربية.
وفي سلسلة محاضرات نظمتها وزارة الأخبار البريطانية ، بدأ هؤلاء في التأكيد على كون التيجرينية هي اللغة الرسمية الوحيدة لأرتريا. وكان لمحاضرات وتصريحات “إسحاق تولد مدهن” (Ishaq Twelde Medhen) – مفتش المعارف الأرترية للمدارس الوطنية – صدى كبيرا ، أحدث جدلا واسعا ، وردودا لمزاعمه. وكانت تصريحاته في المؤتمر السياسي للشرق الأوسط الذي عقدته الإدارة البريطانية في القاهرة في عام 1945م والذي أكد فيه على أن اللغة التيجرينية هي اللغة الرسمية دورها في إذكاء الصراع حول مستقبل اللغة العربية …
وقد دار بين سماحة المفتي وحاكم عام أرتريا البريطاني -الذي كان يحسن التحدث باللغة العربية – حوارا في شأن اللغة العربية ، أبلغه فيها سماحته أسف المسلمين من تجاهل الحكومة للغة العربية في إفتتاحها المدارس وأنشائها الجريدة باللغة التجرينية دون العربية. يقول سماحة المفتي : “وقد كانت دهشتي كبيرة حين قال لي أتريد من الحكومة أن تنشئ جريدة لأنفار من العرب المهاجرين: فقلت له .. إن المعلومات التي وصلتكم فاسدة ، وإستعمال اللغة العربية ليس محصورا على العرب المهاجرين ، وهى لغة المسلمين جميعا – بدون مزاحم – كتابة وقراءة. فقال لي.. إني أعلم أن السواحل كلها إسلامية ، ولكنهم لا يتكلمون باللغة العربية. فقلت له : أما التحدث بها بطريقة الكتابة والقراءة فأمر واضح لا ينكره أحد ، وأما التكلم الشفهي بها فمنهم من يتكلم بها ، ومنهم من لا يتكلم بها. فقال لي إن المعلومات التي وصلتني تفيد بأن اللغة العربية غير مستعملة ، وغير معتبرة في أرتريا لدى غير العرب المهاجرين ثم وعدني أن ينظر في الأمر…”
طرفي الصراع:
وقد ظهر الإنقسام حول اللغة العربية واضحا بين طرفي الصراع حول مستقبل أرتريا السياسي. فحزب الإتحاد إلى أثيوبيا كان مناوئا للغة العربية مناوئة شديدة ، والأحزاب الداعية للإستقلال – وفي مقدمتها حزب الرابطة – كانت من أكثر المنافحين عن اللغة العربية. وكانت قضية اللغة العربية موضع إجماع بين كل القيادات الإسلامية بكافة توجهاتها ، وأطيافها ، وإنتماءاتها ، حتى المنتمون منهم لحزب الإتحاد مع أثيوبيا كان لهم موقف مختلف عن قيادة الحزب.
وقد أكد حزب الرابطة الإسلامية موقفه من العربية بوضوح في قراره الصادر في عام 1948م باعتماد اللغة العربية كلغة رسمية للبلاد ، وأكد هذا القرار مرة أخرى بعد صدور القرار الفيدرالي في لقاء للرابطة الإسلامية في مدينة كرن في 8 إبريل 1951م .
وقد أصدرت الجبهة الديمقراطية – المكونة من ستة أحزاب – في 12 يوليو 1951م مذكرة إلى مندوب الأمم المتحدة تبدي فيها رأيها في مسائل الدستور حيث طلبت في المذكرة إعتماد اللغة العربية كلغة رسمية لحكومة أرتريا مع اللغة التجرينية.
اللغة العربية ومندوب الأمم المتحدة:
وقبل وضع مسودة الدستور الأرتري ، أجرى مندوب الأمم المتحدة “إنزوا ماتنزوا” مشاورات مطولة لوضع مسودة الدستور ، وقد إلتقى ضمن من إلتقى بسماحة المفتي – بناءا على طلبه – في 30 يوليو 1952م حيث قدم له سماحته شرحا ضافيا حول اللغة العربية ومكانتها في أرتريا ، ثم كتب إليه رسالة فيها المزيد من التوضيح والتفصيل (أنظر صفحة رسائل). وقد إلتقى المندوب أيضا بقيادات الأحزاب الإستقلالية والتي عبرت له بوضوح موقفها الداعي لاعتبار اللغة العربية لغة رسمية. أما حزب الإتحاد – رغم موقفه المعادي للعربية – فإنه إعتذر عن الحضور أمام المندوب وإبداء رأيه الصريح حول اللغة الرسمية لأرتريا. ويبدوا أن السبب في ذلك هو خشية الحزب من تمرد القلة المنتسبة إليه من القيادات المسلمة. ورغم هذا فقد أصدرت القيادات المسلمة المنتسبة إلى حزب الإتحاد بيانا خاصا أعلنت فيه مطالبتها باعتماد اللغة العربية لغة رسمية مخالفة بذلك موقف قيادة الحزب وكوادره. وكانت أثيوبيا عبر مناصريها تمارس الضغط على المندوب لإستبعاد اللغة العربية واعتماد اللغة الأمهرية ، وكان للبريطانيين أيضا تطلع لاعتماد الإنجليزية ، والإيطاليين لاعتماد الإيطالية. وقد قرر المندوب في نهاية المطاف ترك موضوع اللغات مفتوحا دون تحديد في مادة 4 من مسودة الدستور والتي تنص على أن:
1- اللغات التي درج على إستعمالها جماعات مختلفة من السكان يجوز العمل بها في صلاتهم بالحكومة طبقا للعرف السائد.
2- ولهم حرية استعمال هذه اللغة في أغراضهم الدينية والتعليمية وفي جميع مظاهر التعبير في الرأي.
وقد حاز هذا القرار على رضا المناوئين للغة العربية ، وسبب إستياءا واضحا لدى أنصارها.
اللغة العربية في داخل البرلمان:
أصدر حاكم عام أرتريا البريطاني في يوم السبت 19 إبريل 1952م إعلان رقم 127 لتكوين الجمعية التمثيلية الأرترية ، ونص في المادة الثالثة أن يكون التحدث في الجمعية باللغة العربية واللغة التجرينية والإنجليزية ، وقد حظي هذا القرار بموافقة الجمعية الأرترية.
وبعد إفتتاح الجمعية الأرترية في 4 شعبان 1371هـ الموافق 28 إبريل 1952م بدأ النقاش حول مسودة الدستور فطالب النواب المناصرون للعربية مناقشة مادة اللغة الرسمية أولا ، فحاول المناوؤن تأخير النظر في هذه المادة يساندهم رئيس الجمعية – من حزب الإتحاد – ، ولكن نتيجة لإصرار المناصريين على مناقشة هذه المادة وتشبثهم بموقفهم بدأ النقاش فيها في 18 رمضان الموافق 11 يونيو واحتدم النقاش بين الطرفين وتصاعد تصاعدا كبيرا. ولم يتوانى المعارضون من وصم اللغة العربية بأنها لغة أجنبية لا يتكلم بها إلا الحضارم واليمنيين. ومن المفارقات العجيبة أن الطرف المعارض مع وصمه للغة العربية بأنها أجنبية كان يطالب – كما صرح مقدمهم القس ديمطروس ، رئيس الجمعية – باعتماد اللغة الأمهرية مع التيجرينية ، رغم أن الأمهرية كانت مجهولة في أرتريا أنذاك.
وقد حمل نائب عصب محمد عمر أكيتو** مندوب الأمم المتحدة مسؤولية ما حدث في الجمعية من إنقسام نتيجة لسكوته في مسودة الدستور عن تحديد اللغتين الرسميتين رغم أنه سمع بوضوح مطالب الشعب الأرتري في ذلك. وأكد النائب القاضي علي عمر أن العربية أصل للغات التي يطالب أعداؤها باعتمادها ، فالتيجرينية وليدة اللغة الجئزية وهي لغة منسوبة إلى اليمن. وقد زادت حدة النقاش من عزم النواب المناصرين للعربية على الثبات على مطلبهم وعدم المساومة فيه حيث قرروا بعدم قبول ” أي إقتراح أو تأجيل أو أي بحث في باقي مسودة الدستور قبل الموافقة على إدخال العربية في دستور أرتريا ، وصمموا على رفض الفيدرالي ومقاطعة الجمعية التمثيلية إن لم تتم الموافقة على العربية”. وهنا أحس الطرف المناوئ خطورة وجدية الأمر ، فوافقوا – بناءا على نصح المندوب وأخرون لهم – بقبول تعديل الدستور وإدخال اللغة العربية. وكان لموقف أولئك النواب الصلب دور أساسي في إحداث هذا التحول المهم. يقول سماحة المفتي مشيدا بموقف أولئك النواب “وبذلك سجلوا التاريخ المشرف الذي لا يمحوه كر الجديدين”. وكانت الصيغة المعدلة للدستور (مادة 39) تنص على:
(1) تكون اللغتان التيجرينية والعربية اللغتان الرسميتان في أرتريا.
(2) على حسب العرف المتبع في أرتريا سيسمح باستعمال اللغات المكتوبة والمنطوقة لدى مختلف عناصر الشعب عند الإتصال بالسلطات العامة كما يسمح باستعمالها للأغراض التعليمية والدينية ولجميع أوجه التعبير عن الرأي.
ورغم أن هذه الصيغة المعدلة كانت تحقق مطلب المناصرين في المادة الأولى منها، إلا أنهم لم يرضوا بالمادة الثانية ، ولم يروا ما يدعوا اليها وأحسوا أن ورائها محاولة للإلتفاف على اللغة العربية وتهميشها. ولذلك إنقسم المناصرون فيما بينهم ما بين أقلية معارضة ومؤيدة ، وأغلبية متحفظة. وكان إثنان من أبرز المنافحين عن اللغة العربية – النائب ناصر باشا *** ، والنائب القاضي علي عمر – مع الطرف المؤيد. أما الطرف المناوئ للعربية فقد رضي بالتعديل حيث وجد في المادة الثانية ما يحقق مطلبه.
جرى التصويت على هذه المادة في 23 رمضان 1371هـ الموافق 16 يونيوا 1952م ، فأيد التعديل 37 عضوا ، وعارضها إثنان ، وامتنع عن التصويت 28 نائبا ، وكان الساكتون والمعارضون كلهم من المناصرين للغة العربية.
ورغم هذا الإنتصار التاريخي المهم فإن الحكومات المتعاقبة – والتي كانت تحت سيطرة حزب الإتحاد – لم تتوانى في وضع العراقيل أمام الإستعمال الرسمي للغة العربية ، حتى أحكمت حكومة الإمبراطور قبضتها على البلاد واستبعدت العربية والتيجرينية وفرضت قسرا اللغة الأمهرية على الجميع. ولم تكتفي حكومة الإمبراطور بذلك بل حاولت فرض الأمهرية على المحاكم الشرعية ، والمعاهد الإسلامية ، وهنا خاض المسلمون صراعا طويلا للدفاع عن العربية في مؤسساتهم الإسلامية ورفعوا في ذلك الكثير من العرائض والمذكرات
الهوامش:
* المذهب الكاثوليكي في أرتريا:
· قوي المذهب الكاثوليكي في أرتريا بقوة الحكومة الإيطالية ، وكثر عددهم ، وخصصت الحكومة لهم مقاطعات من الأرض ، وبسطت لهم أجنحتها ، وبنت لهم في وسط أسمرة كنيسة ضخمة وحولها مباني خاصة لسكنى الكاثوليك.
· في عام 1349 هـ الموافق 1930م عين أول أسقف كاثوليكي أرتري –للأرتريين الكاثوليك- من قبل الفاتيكان ، وهو “أبا كيداني ماريام” من قبيلة صنعدقلى حول منطقة سقنيتي في مديرية أكلى قوزاي (توفي عام 1951م). ولما قدم من روما إحتفت به الحكومة الإيطالية وقابلته في أسمرة مقابلة الملوك والأباطرة. وكان المذهب الشائع عند مسيحي أرتريا والحبشة المذهب القبطي الأرثوذكسي التابع للكنيسة القبطية في مصر. (نقل باختصار من كتابات المفتي)
** محمد عمر أكيتو:
· محمد عمر أكيتو ، انتخب عضوا في البرلمان الأرتري عن منطقة عصب في الدورة الأولى والثانية.
· عرف بشجاعته ومواقفه الصلبة. حاولت السلطة إستبعاده من البرلمان في الدورة الثانية بالطعن في نتيجة إنتخابه ، فرفع قضيته إلى المحكمة الكبرى برئاسة المستر شرر البريطاني فانتصر عليها. ورغم ذلك حاولوا منعه من حضور جلسات الجمعية. وكان البرلمان في الفترة الثانية قد تم تجريده من البرلمانيين الأحرار – عبر تدخلات فاضحة في مسار الإنتخابات – وكان عمر أكيتو الوحيد الذي إستطاع أن يتغلب على العراقيل التي وضعت أمامه ويفوز في الإنتخابات مرة ثانية.
· دافع عن حقوق أرتريا ، وعن العربية ، ونادى بالمساواة بين الجميع – مسلمين ومسيحيين – ، ورفع صوته معترضا على الإنتهاكات الدستورية.. وكان صوتا حرا لا يتردد عن الصدع بكلمة الحق.
*** ناصر باشا:
· ولد في عام 1288هـ الموافق 1871م.
· تولى رئاسة قبيلته ( فقرت عري) بعد وفاة أبيه ، وفي عام 1936م الموافق 1355هـ عينته الحكومة الإيطالية ناظرا عاما لقبائل أساورتا ولواحقها (وتحته 14عمدة) ، ومنحته لقب “راس” ولكنه طلب تغييره إلى لقب إسلامي مساوي للراس فأعطوه لقب باشا.
· ساهم في تأسيس حزب الرابطة الإسلامية الأرترية ، وكان من أهم قادتها ، والمنافحين عنها. وقد جاءه وفد من كبار قيادات حزب الإتحاد وأغروه بأن يتخلى عن الرابطة ويدخل في حزبهم ، فرد في حزم : “لقد قلت كلمة ، وعاهدت الله عليها يوم إنشاء الرابطة الإسلامية بكرن ؛ أنا وقومي على ذلك العهد إلى أن نموت عليها”…
· توفي في يوم الأربعاء 8 ذي القعدة 1379هـ الموافق 4 مايو 1960م في مدينة عدي قيح. شارك في جنازته خلق كثير ، وكان المسيحيون أكثر من المسلمين ، حيث كان له معهم إتصالات واسعة ، وكان محترما عندهم. يقول سماحة المفتي في شأنه : “وكان شديد التمسك بدينه الإسلامي ، وكثير الأوراد والذكر…. وكان رحمه الله شهما باسلا لا يهاب أحدا …” (نقل باختصار من كتابات المفتي)
اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!